الرئيسية

شيرين دعيبس (1/ 2): "عشنا نكبة جديدة ونحن نصوّر النكبة الأولى"



شيرين دعيبس: “صوّرنا في وقت صعب” (كريستي سبارو/Getty)

 

لا تكتفي بالتمثيل، إذْ تكتب سيناريوهات أفلامها. أخرجت حلقات عدّة بمسلسلات أميركية ذات أجزاء، تمتزج فيها الإثارة المُشوّقة بالكوميديا الرومانسية والغموض المُحلّى بنكهة سخرية أحياناً.

شيرين دعيبس مخرجة سينمائية فلسطينية أميركية، لها فيلم قصير، كان تميمة الحظّ لها، “تَمَنّىَ أُمنية” (2006): طفلة فلسطينية متأجّجة بالحيوية، تذهب لشراء كعكة، لكنّ نقودها لا تكفي. الحماسة لا تفتر. لا تقبل بديلاً أرخص. تتسوّل مستخدمةً أختها الصغرى. الحجّة؟ ضرورة إجراء عملية جراحية عاجلة. يبدأ القصف الإسرائيلي، ويُفرض حظر التجول قبل عودتهما إلى البيت. تُعنّفها الأم الخائفة عليها جداً، فتسقط الكعكة أرضاً. لاحقاً، يُكتَشف أنّ الهدية احتفالٌ بذكرى استشهاد والدها، فتطلب من أمها وأختها أنْ يتمنّيا أمنية، قبل إطفاء الشمعة.

لفت الفيلم النظر إليها، فاتحاً أمامها أبواباً عدة، ومانحاً اسمها مصداقية ومكانة، إذ نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة لـ”مهرجان أسبن للأفلام القصيرة” (2007)، أحد أبرز مهرجانات الأفلام القصيرة في أميركا الشمالية. ثم أنجزت أول روائي طويل، “أمريكا” (2009)، فأكّد موهبتها. قبل إخراج مسلسلات، أنجزت عملين آخرين (2013): القصير “ولا كلمة أخرى”، ثم الطويل “مَيّ في الصيف”.

“اللي باقي منك” (2025، 145 دقيقة)، عُرض في الدورة 59 (4 ـ 12 يوليو/ تموز 2025) لـ”مهرجان كارلوفي فاري” (عروض خاصة)، ورُشِّح لجائزة الجمهور الذي صفّق له عشر دقائق، والذي شارك في نقاش حماسيّ مع المخرجة وبعض ممثليه، كشف (النقاش) عن تعاطف مُشاهدين مع شخصياته (تمثيل دعيبس وصالح ومحمد وآدم بكري)، ومع القضية الفلسطينية التي ازداد تفهّمهم ووعيهم بجوانبها.

 

(*) هذا فيلم عن النكبة، وما تلاها من نكبات. قصة عائلة فلسطينية، طُردت من مدينتها يافا عام 1948، وانتقلت إلى الضفة الغربية. قوة القصة وسحرها لا يكمنان في تناولها ثلاثة أجيال فقط، بل ينبعان أساساً من الصدق والعمق والقدرة على أنْ تحكي ببساطة مؤثّرة كيف سُرقت فلسطين، ونُهب تراثها وأرضها، وطُرد أهلها وعاشوا الشتات، وكيف احتُلّت، ومن ساند الصهاينة في تحقيق ذلك. سردْتِ تفاصيل واحتمالات، واضحة ومتوارية. طرحْتِ إشكالية أخلاقية قبيل النهاية، لن أكشفها لعدم حرقها على المُشاهد. كيف تمكّنت من حياكة كل هذه الشخصيات بهذا السيناريو المُطرّز بسخرية وعنف وحزن، مع قدرة على تجاوز كل ذلك، والاستمرار في المقاومة، ومنحنا الأمل؟

فكرة السيناريو جاءتني قبل عشر سنوات. كنت أريد كتابة سيناريو عن ثلاثة أجيال، وسرد قصة فلسطين، وكيف صرنا لاجئين، وما الذي صار معنا عام 1948. لأنّي فلسطينية نشأت بالخارج، كنت أعرف ماذا حدث في النكبة، وأندهش لأنّ الناس لا يعرفون ما النكبة، وما يحدث في فلسطين. لا يعرفون جذور ما حدث معنا، ولا أصل الحكاية. الناس يعرفون كيف نشأت دولة إسرائيل، لكنّهم لا يعرفون ماذا فعلت إسرائيل مع الفلسطينيين في هذه الأرض. أعيش وسط أميركيين يعرفون المعلومات بفضل البروباغندا فقط.

 

(*) ككثيرين يردّدون الجملة الشائعة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، التي رَوَّج لها زعماء الحركة الصهيونية.

كنت أسأل: كيف لا تعرفون هذه الحقيقة؟ كنت أشرح لهم، وأشعر برغبةٍ في صنع شيء عن هذا. قلت لنفسي: يوماً ما سأنجز فيلماً.

 

 

(*) كيف بدأت أولى خيوط السرد؟

منذ جاءتني الفكرة، عرفت أنها تحتاج إلى إنجاز فيلم كبير عن عائلة فلسطينية تتكوّن من ثلاثة أجيال، وتناولْ ما يحدث مع أفرادها عام 48، وكيف أصبحوا لاجئين.

 

(*) ماذا عن أول صورة خطرت ببالك؟

أول صورة جاءت من مشهدٍ بسيط: صبي مشارك بتظاهرة، زمن الانتفاضة الأولى، فيبدأ الإسرائيليون إطلاق الرصاص على المتظاهرين، ولا نعرف هل أصيب الصبي أمْ لا. لاحقاً، قرّرت أنّه قبل سرد قصته، وكيف شارك بالتظاهرة، لا بدّ أنْ أحكي تاريخ عائلته، وكيف جات إلى هذا المخيم. هكذا، نشأت القصة.

 

(*) ما عدد مسوّدات السيناريو قبل بلوغ صورته النهائية؟

كتبت السيناريو عام 2020، فترة كورونا، عندما توقّف كل شيء. لكنّي كنت أفكر ببنائه قبل ذلك بسنوات، وكنت أعرف تفاصيل كثيرة. لسنوات، ظللت أكتب في دفتر خاص ملاحظاتي عن الشخصيات، وأفكاراً للحوار. كنت أكتب كل ما يخطر ببالي. لذلك، كانت كتابة السيناريو سهلة ومُتدفّقة.

من أول نسخة، شعرت أنّ هناك شيئاً ما. كتبت ثلاث مسوّدات. قدّمت أوّلاها إلى البعض لقراءتها، فكان ردّ الفعل قوياً. أحبّها هؤلاء، وبينهم أميركيون، ووكيل أعمالي في هوليوود. لذلك وجدت منتجاً بسهولة.

 

(*) من المشاهد المؤلمة، واقعة إهانة سليم (صالح بكري) وإذلاله أمام ابنه الصغير من جنود الاحتلال، ما أدّى إلى تفسّخ العلاقة القوية بينهما. أكان مُستلهماً من الواقع؟

عشت بعض تفاصيل المشهد. أتذكّر أول زيارة لي إلى فلسطين، ببلوغي ثمانية أعوام. دخلنا من الأردن إلى الضفة عبر جسر اللنبي. جنودٌ إسرائيليون أوقفونا نحو 12 ساعة. أرهقوا الجميع وعنّفوهم. كنا مُهدّدين، حتى إخوتي الصغار، ومَنْ يبلغ ثلاثة أعوام أو عاماً واحداً. ظلّ والدي، رغم الإهانة التي شعر بها وكان وجهه أحمر من قسوة ما عشناه، يواجه الجنود، ويرجوهم قائلاً لهم: “من فضلكم، لا تفعلوا ذلك بأولادي”، وكانوا يصرخون به لدرجة اعتقادي أنّهم سيقتلونه. في ذاك اليوم، عرفت ماذا يعني أنْ يكون المرء فلسطينياً. كانت التجربة قوية، وظلّت معي إلى الآن. كانت مُلهمة للمشهد.

 

(*) بجلوسه صامتاً للحظات في الصف (هو أستاذ مدرسة)، بعد الواقعة، جعلني صالح بكري أشعر بغليانه الداخلي، رغم الصمت.

قدّم صالح الدور من كل قلبه. هو ممثل قوي. صوّرنا الفيلم في وقت صعب جداً. بصفتنا ممثلين، كنا نتابع النكبة الحالية التي تحدث، ونحن نصنع فيلماً عن النكبة الأولى. كنا نعيش نكبة أكبر. كان صالح حزيناً جداً لمشاهدته اليومية كل ما يحصل، ويُصرّ على متابعة العمل مهما كان مؤلماً.

أعتقد أنّ هذا الإحساس تكوّن وظهر في الفيلم لمتابعته أخبار غزة.

 

(*) هل كتبتِ في السيناريو ملاحظات بشأن مشاهد الصمت، تعبيراً عن الحالة الشعورية، وتحديداً مشهد تحوّل علاقة الابن بأبيه، إذْ شعرت أنّ ما انتاب الابن كراهية، أو عدم احترام لوالده، بينما الأب صامت؟

لم أكتب. فقط كنت أقول إنّ شيئاً ما بداخله تبدّل أو مات بعد الإهانة. شعور الابن لم يكن كراهية، لكنّ رؤيته لوالده تغيّرت كلّياً. كأنّه لم يعد في تلك المكانة العالية.

 

(*) الأداء التمثيلي أشعرني بأنّ العلاقة بينهما تصدّعت أو انهارت. مع ذلك، شخصية سليم تبدو هادئة خارجياً، أما داخلياً، فتشي بارتباكات واضطرابات.

صالح، الشخص والممثل، عاش الحالة كلّياً. إنّه يعيش في حيفا. لم يكن ضرورياً أنْ أشرح له كثيراً، ولا أنْ أكتب له إشارات. إنّه يفهم الوضع أكثر مني. أخبرته فقط كيف سأصوّر المشهد، وماذا يدور في تفكيري. هو عاش الحالة فوراً، وقدم أداءه الحساس.

 

 

(*) هناك محمد وابناه صالح وآدم. في أي مرحلة من الكتابة قرّرت أنْ تكون عائلة بكري في الأدوار الرئيسية؟

منذ الكتابة الأولى. لم أفكّر بغيرهم.

 

(*) هل قرأوا السيناريو قبل الموافقة على الأدوار؟ هل طالبوا بتعديل تفاصيل بناء على وجهة نظرهم؟

طبعاً قرأوا السيناريو. كانت لهم ملاحظات أعجبتني كثيراً، فأعدت الكتابة لأجلهم. والدتهم من يافا، وصالح مولود فيها.

 

(*) في لقطة النهاية، يظهر الزوجان المكلومان وهما يُديران ظهريهما للجمهور، ويتطلّعان إلى بحر يافا. لقطة تذكّر بحنظلة، الذي أبدعه رسّام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، جاعلاً إياه يُدير ظهره للجمهور. عندما سُئل العلي عن السبب، أجاب: “لأنّه يتطلّع دائماً إلى فلسطين”. هل قصدت هذا المعنى بتلك الخاتمة؟

(ابتسامة): لا، لم أنتبه إلى فكرة حنظلة، لكنّي أحببت هذا الوصف.

 

(*) ماذا عن أصعب مشهد؟

هناك مشاهد كثيرة صعبة، لكنّ مشهد سليم وابنه والجنود تطلّب تصويره نهاراً كاملاً. كان صعباً كثيراً، لأنّ صالح يُعطي بقوّة وألم، وهذا صعبٌ عليه نفسياً، ومؤلم عاطفياً. لأسباب فنية، طلبت منه الإعادة مرّات عدة. هذا المشهد أهلكنا.

 

(*) كيف كان التعامل مع الأطفال؟

أحببتهم كثيراً. أحببت التعامل معهم. إنّهم أذكياء جداً ولمَّاحين ومتعاونين ومتحمّسين. كرّسوا أنفسهم للفيلم. كنا كأسرة. شعروا أنّهم بأمان، فرغبوا في إعطاء كل شيء يقدرون على منحه. كانوا جميعاً اختياري الأول.

 

(*) متى بدأت التصوير؟ قبل “7 أكتوبر” أو بعده؟

كل التفاصيل أنجزت في فلسطين، إذْ كان يُفترض بالتصوير أنْ يحصل فيها. لكنّنا اضطررنا للخروج بعد “7 أكتوبر”، لعدم تمكننا من التصوير هناك.