الرئيسية

الالتباس في الموقف من سلاح حزب الله



ليس لبنان فقط من يقف على مفترق طرق على خلفية سلاح حزب الله، بل المنطقة بأسرها. قد يبدو قرار الحكومة اللبنانية، في وقت مبكّر من شهر أغسطس/ آب الجاري، حصر السلاح بيد الدولة وتكليف الجيش وضع خطة لذلك وإنجازها قبل نهاية عام 2025، القرار الذي رفضه حزب الله، شأناً لبنانياً داخلياً خالصاً، غير أن الحقيقة غير ذلك. ليس لأن قرار الحكومة جاء بناءً على شروط أميركية حملها المبعوث الأميركي توماس برّاك، ولا لأن القرار يمثّل أحد تداعيات الضربة العسكرية القاسية التي تلقّاها الحزب بيدي إسرائيل (بين 23 سبتمبر/ أيلول و27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، بل إنه يأتي في سياق مساعي إسرائيل الحثيثة إلى إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط برمّتها، مدفوعة بما تعدّه نصراً مدوّياً حقّقته خلال العامين الماضيين. وهنا لا بدّ من استحضار تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الأسبوع الماضي)، وشددَّ فيها على أنه “في مهمّة تاريخية روحانية”، وأنه “مرتبط عاطفياً برؤية إسرائيل الكبرى”، التي تمتدّ ما بين نهرَي النيل والفرات، وتشمل (في ما تشمله) لبنان.

إذا نظرنا إلى المشهد اللبناني في الإطارَين، الداخلي الضيّق والإقليمي الأوسع، فيما يتعلّق بالخلاف بشأن سلاح حزب الله، نجد أنفسنا أمام مشهد ملتبس ومتداخل ومعقّد. من ناحية، الأصل أن يكون سلاح حزب الله من ضمانات أمن لبنان أمام التغوّل والعدوان الإسرائيلي، وهو قد أدّى جزءاً معتبراً من هذا الدور على مدى العقود الماضية، كما في تحرير جنوب لبنان عام 2000، ومنع عدوان إسرائيلي آخر على لبنان بعد عام 2006، وحتى أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، عندما دخل الحزب بشكل محسوب ومتدرّج على خطّ إسناد قطاع غزّة. كما أن قوة حزب الله العسكرية ساهمت في إيجاد توازن إقليمي مع إسرائيل، على الأقلّ في العقدَين الماضيَّين. ولكن، من ناحية ثانية، كثيراً ما ضلّت بندقية حزب الله طريقها داخلياً وخارجياً، كما في احتلال الحزب بيروت في مايو/ أيار 2008، في إثر قرار مجلس الوزراء اللبناني مصادرة شبكة الاتصالات التابعة لجناحه العسكري، وإقالة مدير جهاز أمن مطار بيروت الدولي المحسوب عليه. أمّا الانحراف الأكبر فتمثّل في تورّط بندقية حزب الله، عام 2011، في سفك الدم السوري دعماً لنظام الطاغية الفارّ بشّار الأسد. ولا ننسى هنا ارتهان حزب الله لمنظومة نظام “الوليّ الفقيه” في إيران وحساباته، على حساب المصالح اللبنانية العليا.

خسر الحزب وحليفته حركة أمل منذ سنوات “الثلث المعطّل” في البرلمان، وهو ما أفقدهما القدرة على نقض قرارات الحكومة

اليوم، يجد حزب الله نفسه أمام واقع جديد لم يعهده على مدى العقود الأربعة الماضية. الضربات العسكرية الإسرائيلية التي تلقّاها منذ أكتوبر 2023، وبلغت أقصى مدى لها ما بين شهري سبتمبر ونوفمبر (2024)، وشملت اغتيال كثيرين من قياداته السياسية والعسكرية، وفي مقدمها زعيمه الكاريزمي حسن نصر الله، وتدمير كثير من قدراته التسليحية، أضعفت الحزب إلى حدٍّ كبير، داخلياً وخارجياً، خصوصاً بعد سقوط نظام الأسد في سورية نهاية العام الماضي، والعدوان الإسرائيلي الأميركي على إيران في يونيو/ حزيران الماضي وانكماشها إقليمياً. كما أن الواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه لبنان، الذي تقايضه الولايات المتحدة، وقوىً إقليميةٌ عربيةُ أخرى، بسلاح حزب الله، وضع الحزب في زاوية حرجة شعبياً. أضف إلى ذلك أن خرق إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار في التسعة أشهر الماضية أكثر من ثلاثة آلاف مرّة، وقتلها (وإصابتها) مئات كوادر حزب الله في طول لبنان وعرضه، فضلاً عن استمرار احتلالها خمس تلالٍ في جنوب لبنان، من دون ردٍّ من الحزب، وفّر ذخيرةً لخصومه لابتزازه وتعييره، كما هزّ صورته بين حاضنته الشعبية التي تحمّلت العبء الأكبر جرّاء العدوان الإسرائيلي. وفوق هذا وذاك، خسر الحزب وحليفته حركة أمل منذ سنوات “الثلث المعطّل” في البرلمان، وهو ما أفقدهما القدرة على نقض قرارات الحكومة.

الاعتداءات الإسرائيلية من دون ردّ وفّرت ذخيرةً لخصوم حزب الله لابتزازه

كلّ ما سبق جرّأ خصوم الحزب عليه، فالرئيس جوزاف عون والحكومة يطالبانه بتسليم سلاحه، ويؤيّدهما البطريرك الماروني بشارة الراعي، وسمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية، وتيارات سياسية سنِّية، مثل تيار المستقبل، وقوى وتيارات لبنانية أخرى. وأمام ذلك، لم يجد الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، إلا التلويح بخوض “معركة كربلائية إذا لزم الأمر بمواجهة المشروع الإسرائيلي الأميركي”، وهو ما عدّه رئيس الوزراء، نواف سلام، تهديداً ضمنياً بحرب أهلية.

من الصعب الجزم كيف ستنتهي جدلية محاولات نزع سلاح حزب الله في لبنان، فالمسألة ليست متعلّقة فحسب بالضغوط الأميركية والإقليمية والتهديدات الإسرائيلية، بل كذلك بموقع حزب الله في الخريطة السياسية اللبنانية، ومشروع إيران الإقليمي، التي أعلنت معارضتها نزع سلاحه. إلا أن الالتباس في موضوع سلاح حزب الله يذكّرنا مرّة أخرى أن نزعه يعني إزالة عائق، وإن كان أضعف كثيراً، أمام التمدّد الإسرائيلي في المنطقة والسيطرة عليها. وفي سياق الالتباس نفسه، لن ينسى كثيرون كيف ضلّ سلاح حزب الله طريقه ووجهته من قبل، وهو ما أفقده كثيراً من التعاطف الشعبي العربي الذي تمتّع به حتى عام 2006، قبل أن يغرق في أوحال الطائفية والمشروع الإيراني التوسّعي في المنطقة. ولكن، غياب هذا السلاح الآن كارثة أيضاً على لبنان، الذي يبقى في عين الأطماع الإسرائيلية، وعلى المنطقة. كيف يمكن فهم ذلك كلّه والتوفيق بين تناقضاته؟… لا يظنّ كاتب هذه السطور أن ثمة إجابة سهلة.