الصين تريد الحصول على النصيب الأكبر في السوق الهندية العملاقة- مصنع سيارات صينية Getty
عل مدى عقود طويلة اتسمت العلاقات بين الصين والهند القوتين النوويتين بالتعقيد والتوتر، فالبلدان الجاران هما العملاقان السكانيان للعالم، ويحتلان المرتبة الثانية والخامسة من حيث أقوى الاقتصادات العالمية، وقد جمعت بينهما الجغرافيا وفرقتهما السياسات. يمتد التنافس بين البلدين إلى ما بعد استقلال الهند عام 1947.
فبعد صداقة قصيرة في البداية، أدى استيلاء الصين على التبت عام 1950 إلى نشوء أول حدود مشتركة في التاريخ بينهما، ما ولّد توترات مبكرة. وزاد منح الهند حق اللجوء للدالاي لاما عام 1959، عقب انتفاضة فاشلة ضد الحكم الصيني من حدة التوتر، ليخوض الطرفان بعد ثلاث سنوات حربًا حدودية قصيرة حسمتها الصين بوضوح. وظلت الخلافات حول منطقتين أساسيتين من دون حل: أكساي تشين في الغرب وأروناشال براديش في الشرق.
وتجدد التدهور في علاقات البلدين إثر الاشتباكات الحدودية في عام 2020 التي أودت بحياة جنود من الجانبين. لكن الصعود الاقتصادي المستمر للعملاقين الآسيويين يضعهما معا في جبهة تجارية واحدة في السنوات الأخيرة، تجلت هذه الحقيقة على إثر التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي هوى بمطرقته على العملاق الهندي لمنعه من استيراد وتجارة النفط الروسي، وفكر مليا قبل أن يطبق نفس الخطوة على العملاق الصيني. فلماذا أصبح التقارب الاقتصادي بين بكين ونيودلهي حتميا، خاصة في ضوء الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للصين في نهاية الشهر الجاري للمرة الأولى منذ 7 سنوات؟
يشير تحليل نشرته وكالة بلومبيرغ يوم الخميس إلى أهمية الروابط الاقتصادية المتنامية بين الهند والصين في السنوات الأخيرة. فالصين تمتلك مجموعة من التقنيات والمواد الحيوية والمعادن التي تحتاجها الهند لدفع طموحاتها الصناعية، بينما ترى بكين في الطبقة الوسطى الهندية المتنامية سوقًا استهلاكية مهمة. فالصين ثاني أكبر شريك تجاري للهند بعد الولايات المتحدة، بفضل الطلب الكبير على السلع الاستهلاكية الصينية. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 127 مليار دولار العام الماضي، كان معظمها، نحو 109 مليارات دولار، عبارة عن صادرات صينية إلى الهند.
كيف تحتاج الهند إلى الصين؟
تتوقف طموحات الهند الصناعية بشكل متزايد على الوصول إلى التكنولوجيا الصينية. فقد استوردت الهند ما يقارب 48 مليار دولار من الإلكترونيات والمعدات الكهربائية من الصين في عام 2024، ما يبرز مدى اعتمادها على الأجزاء الصينية في تجميع الأجهزة الإلكترونية، من الهواتف الذكية إلى شبكات الاتصالات. وبالمثل، فإن صناعة الأدوية الهندية الشهيرة تستورد الغالبية العظمى من المواد الدوائية الفعّالة من الصين. كما تعتمد الهند بشكل كبير على الصين في المعادن النادرة (المغناطيسات الأرضية النادرة) لتحقيق أهدافها الطموحة في مجالات السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والإلكترونيات الاستهلاكية.
وقد شكّلت قيود الصين على صادرات هذه المعادن، والتي أصابت الهند أكثر من غيرها من الدول الصناعية، تهديدًا بشل قطاع السيارات الهندي. ولا يقتصر الأمر على السلع والمعدات؛ فالهند تحتاج أيضًا إلى المهارات والخبرة التقنية الصينية لتلبية احتياجاتها التكنولوجية الحيوية، من بطاريات السيارات الكهربائية إلى حلول تخزين الطاقة النظيفة، ولتحقيق طموحاتها في توفير حلول متجددة ورخيصة لطرق الحياة لسكانها الذين يبلغ تعدادهم مليارا وأربعمائة مليون نسمة.
وفي هذه القطاعات، حيث تفتقر الهند إلى الخبرة المحلية وتندر البدائل، بدأت بعض أكبر التكتلات الاقتصادية في استكشاف شراكات مع الشركات الصينية بعيدًا عن الأضواء. فقد زار الملياردير الهندي غوتام أداني الصين للقاء مسؤولين في شركة CATL، أكبر مصنع للبطاريات في العالم، وأجرى محادثات أولية مع شركة BYD الصينية الرائدة في صناعة السيارات الكهربائية حول شراكة محتملة في تصنيع البطاريات.
أما مجموعة JSW المملوكة لسجّان جيندال، فقد أبرمت بالفعل اتفاقًا مع شركة شيري للسيارات لتوريد التكنولوجيا والمكونات لدعم توجهها نحو السيارات الكهربائية. دوافع نيودلهي للتقارب مع بكين لدى بكين أيضًا دوافع قوية للحفاظ على علاقات اقتصادية وثيقة مع نيوديلهي. فمع تباطؤ النمو الاقتصادي المحلي في الصين، ترى بكين في السوق الاستهلاكي الهندي، المدفوع بعدد سكانها الضخم، واحدة من آخر الجبهات المتاحة للتوسع. ففي عام 2024، استوردت الهند وباعت ما يقرب من 156 مليون هاتف ذكي، وهو تطور رقمي سريع يشكل كنزًا لشركات الأجهزة الصينية مثل شاومي وفيفو وأوبو، التي تهيمن بالفعل على المبيعات في الهند.
كما تُعد الهند، ثالث أكبر سوق للسيارات في العالم بحوالي 4.3 ملايين سيارة ركاب مبيعة في 2024. وقد استهدفت شركات السيارات الصينية، ولا سيما BYD، هذا النمو بشكل علني، إذ أعلنت في وقت سابق عن طموحاتها للاستحواذ على ما يصل إلى 40% من سوق السيارات الهندي. وبعيدًا عن سلاسل التوريد، ضخت شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة مليارات الدولارات في النظام البيئي للشركات الناشئة في الهند. فقد موّلت شركات مثل علي بابا وتينسنت شركات ناشئة بارزة مثل Paytm وZomato وOla Electric وByju’s، معوّلة على الاقتصاد الرقمي الصاعد في الهند وازدياد شهيتها الاستهلاكية.
ومثلما ترى الشركات الهندية فوائد في الشراكة مع نظيراتها الصينية، ترى الشركات الصينية بدورها مزايا في التعاون مع الشركات الهندية لمساعدتها في تجاوز تعقيدات البيئة التنظيمية في الهند والوصول إلى واحد من أسرع الأسواق الاستهلاكية نموًا في العالم. ورغم أن التقارب بين البلدين سبق بدء الولاية الثانية للرئيس ترامب، فإن جزءًا من الانفراج يُعزى إلى تغيير موقف واشنطن تجاه الهند. ففي ولايته الأولى، اعتبر ترامب الهند شريكًا أساسيًا في مواجهة الصين. أما هذه المرة، فقد تبنى نهجًا أكثر صرامة تجاه نيودلهي، ففرض عليها رسومًا جمركية مرتفعة، وانتقد حواجزها التجارية، وهاجمها بسبب مشترياتها من النفط الروسي الرخيص. وخلال الشهر الجاري، صعّد ترامب لهجته ملوّحا بفرض رسوم إضافية بنسبة 25% على واردات الهند اعتبارا من 27 أغسطس/آب، عقابا على استمرارها في استيراد الخام الروسي. بل إن وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت وجه انتقادات حادة للهند، متهما إياها بالتربح من حرب أوكرانيا، عبر شراء النفط الروسي بأسعار منخفضة وإعادة بيعه بزيادة كبيرة.
وردت الهند على تهديدات ترامب وإداراته بالعودة إلى شراء النفط الروسي، مستفيدة من اتساع الخصومات السعرية، رغم تهديداته بفرض رسوم إضافية إذا واصلت تمويل آلة الحرب الروسية. هذه السياسات وغيرها دفعت الهند والصين إلى زاوية واحدة في ما يتعلق بالحرب التجارية الأميركية. وقبل أيام أشاد رئيس الوزراء الهندي ووزير الخارجية الصيني بالتقدم “المطرد” في علاقات بلديهما المتوترة، واتفقا على استئناف العلاقات التجارية وغيرها، بالإضافة إلى العمل على حل النزاع الحدودي طويل الأمد في جبال الهيمالايا، وسط تغييرات جيوسياسية عالمية أثارها نظام التعرفات الجمركية الذي فرضه ترامب. ووفق بيانات صادرة عن وزارة الخارجية الصينية، اتفق الجانبان على استئناف الرحلات الجوية المباشرة – تأكيدًا على تعهد قطعاه في يناير – بالإضافة إلى إصدار تأشيرات للصحافيين وتسهيل التبادل التجاري والثقافي.