جموع في شارع النوفرة قرب الجامع الأموي في دمشق (5/6/2025 الأناضول)
كان أوّل شعارات الثوّار: “واحد.. واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد”. وربما كان أصدقها وأكثرها ديمومة، وأكثرها تكثيفاً في لحظة زمنية فارقة.
نُسيت الكثير من الشعارات الأولى، وبقي هذا الشعار حاضراً وصامداً. يستدعيه السوريون كلما شعروا بأن بلادهم في خطر، أو أن وحدتها مهددة.
لم يكن شعاراً عادياً وعفوياً. أدرك الثوار الأُوَل أن السلطة البائدة، على مدى نصف قرن، قسّمت السوريين إلى ملل ونِحل ومذاهب. أقامت جُدراناً من عدم الثقة بينهم، وفخّخت البلاد بالطائفية والعرقية، بل والمناطقية. كانت منذ عقود تتحسّب وتتحضّر لهذه اللحظة. وأن لحظة إشعال فتيل الغضب قادمة لا ريب فيها.
من هنا، ظهر شعار مقابل في الأيام الأولى للثورة، يدلّل على بشاعة ذلك النظام البائد واستعداده لفعل أي شيء للبقاء في السلطة: “الأسد أو نحرق البلد”، لم يكن مجرّد شعار رفعه “الشبيحة”، بل استراتيجية وُضعت على الأقل منذ علّق التونسيون الجرس في رقبة القط.
أوغلت منظومة الأسدين البائدة في اضطهاد الكرد السوريين، وهم مكوّن أصيل من مكونات البلاد السكانية
عندما استولى حافظ الأسد على البلاد عام 1970، كانت نسيجاً اجتماعياً متماسكاً إلى حدٍّ ما، تشوبه بعض التباينات الاجتماعية وربما الثقافية، وهو أمر مقبول وطبيعي في بلاد متنوعة في كل شيء، وهذا أحد أسرار جمالها.
سرّ الجمال الاجتماعي في سورية، حوّله الأسد الأب إلى لعنة. أدرك منذ البداية أن حكمه وسعيه في التأسيس لسلالة تحكم “إلى الأبد”، لن يتحقق ما لم يُفتّت المجتمع السوري من داخله. طبّق الشعار الذي لطالما استخدمته القوى الاستعمارية على مدى التاريخ: “فرّق تسد”. عزّز الفجوة المجتمعية بين الريف والمدينة. رَيّف أكبر مدينتين في البلاد: حلب ودمشق. نقل عدداً كبيراً من أبناء الطائفة العلوية إلى العاصمة، وسمح لهم بالبناء في خواصرها. كتل الإسمنت العشوائية شوّهت العاصمة التي كانت من أجمل مدن الشرق. أهمل الساحل السوري: لا معامل، ولا منشآت صناعية أو سياحية، كي لا يجد الشباب سبيلاً للحياة إلا بالتطوع في الجيش والأجهزة الأمنية. أطلق يد هذه الأجهزة المطبوعة في ذهن السوريين بطائفة معينة، فأوغلت في القمع، فخلقت فجوة عميقة نحتاج زمناً لردمها بالتسامح، ما بين العلويين (الفئة الأكثر فقراً في البلاد) وبقية مكونات المجتمع السوري. ورّط الطائفة معه، فلم تجد سبيلاً أمامها عندما قامت الثورة إلا الاصطفاف خلفه. علّق مصيره بمصيرها، أو هكذا أوهمها وريثه (بشار)، الذي تمادى في تهشيم الشخصية السورية وهدمها.
أوغلت منظومة الأسدين البائدة في اضطهاد الكرد السوريين، وهم مكوّن أصيل من مكونات البلاد السكانية. تاريخهم ضارب في القدم في البلاد، ولعبوا أدواراً وطنية مشهودة. منعهم من كل شيء. التحدث باللغة الكردية تهمة ربما تورد صاحبها أقبية التحقيق، زرع الشقاق ما بين الكرد والعرب، حتى باتوا “إخوة أعداء” في جمهورية الخوف.
أهمل المحافظات الشرقية، وكان يعتبرها مجرد أرض تدر عليه ذهباً. لم تكن تُعرض أغنية من تراث هذه المحافظات على التلفزيون الرسمي، حتى نسي الكثير من السوريين أن سورية تضم محافظات: الرقة، ودير الزور، والحسكة، فيها أغلب خيرات البلاد وأكثرها أهمية. أبناؤها كانوا من الدرجة الثانية، يشعرون بالغربة عندما يأتون إلى العاصمة، وهو ما عمّق الفجوات بين مكونات الشعب. أخاف الأسد المسيحيين من أي تغيير، أوهمهم أنه حامي الأقليات. همّش محافظات كاملة لموقف سياسي اتخذه أبناؤها ضده وضد نظامه. دفع مجموعة من أنصاف المثقفين إلى واجهة المشهد الثقافي، فمسخ الثقافة، وأفقدها أي قيمة.
تعرّف السوريون بعضهم إلى بعضهم في أثناء الثورة. سقطت كل الجدر التي أقامها النظام البائد
لم يكن مفهوم الوطنية بمعناه الأجمل حاضراً لدى السوريين. كانوا يخافون من كل شيء. جعل النظام البائد من حزبه “قائداً للدولة والمجتمع”، وجفّف كل منابع السياسة. صنع أحزاباً تدور في فلك حزبه. هشّم المجتمع السوري سياسياً، وحتى حزبه كان ديكوراً منفّراً ونافراً، في سجن كبير اسمه “سورية الأسد”.
حوّل “الجيش العربي السوري”، بكل تاريخه الوطني، إلى “قوات مسلّحة” لحماية نظامه لا أكثر. ضيّع شباب سورية أجمل سنوات حياتهم في الخدمة الإلزامية من دون هدف. لم يكونوا “حماة الديار”، بل حماة لعرش من القش، قوائمه الأربع من الخوف.
وضع خطة ظنّها محكمة من أجل وأد أي حراك ضده؛ تقوم على تقسيم الشعب إلى مذاهب متناحرة. لم يعمل على بلورة هوية وطنية واضحة المعالم.
استقرّ في يقين النظام البائد أنه فعل كل شيء للوصول إلى “مجتمع متجانس”، بلا إرادة ولا رغبة في الخلاص والتحرر. ظنّ أن الخوف الذي زرعه في كل قلب قادر على حمايته.
ظنّ أنه سيكون في منأى عن رياح التحرير التي هبّت في جمهوريات الشعارات الجوفاء العربية.
في شباط/ فبراير من عام 2011، كان الصبر قد بلغ منتهاه لدى السوريين، فرفعوا صوتهم عالياً في عاصمتهم، فكانت الصرخة: “الشعب السوري ما بينذل”. كانت ما عُرفت لاحقاً بـ”مظاهرة الحريقة”، بداية الانعتاق، والخطوة الأولى في رحلة دماء ودموع طويلة وموجعة. جاءت هذه المظاهرة قبل شهر من انطلاق الثورة السورية التي أسقطت على الفور شعار “الله.. سورية.. بشار وبس”، وأعلنت شعارها الشهير: “الله.. سورية.. حرية وبس”.
تعرّف السوريون بعضهم إلى بعضهم في أثناء الثورة. سقطت كل الجدر التي أقامها النظام البائد. كانت الصرخة في إدلب تجد صدى على الفور في حلب والحسكة. ظهرت الشعارات التي حرّكت عصب الوطنية السورية من جديد في الجسد الذي ظنّ النظام البائد أنه ميّت.
واليوم، وبعدما ولّى زمن الخوف وأزلامه، أمام السوريين فرصة ربما لن تتكرر قبل نحو قرن، ليكونوا شعباً واحداً لا يُذلّ، ولا يُستغفل مرّة أخرى. شعب متنوع في كل شيء، يترك كل شيء دون الدولة والوطنية خلف ظهره، وإلا سيكون الجميع “شركاء في الخراب”.