مدخل دار الأوبرا السورية في دمشق ( 15/3/2025 فرانس برس)
يعيش الوسط الثقافي في سورية اليوم حالةً من ضياع الهوية، وسط دوّامة الفوضى التي ضربت النسيج الاجتماعي، وأخلّت بالقيم والأعراف، فانقسم على بعضه بعد فشله في الحفاظ على الضوابط الأخلاقية المفترض أن تحكم روّاده، وانقاد كثيرون منهم خلف العوام.
في ضوء هذا، كان لا بد من إعادة البحث عن هوية المثقّف الحقيقي، والذي يراه إدوارد سعيد في كتابه “المثقف والسلطة” مسؤولاً عن “تمثيل العامّة في مقاومة أشكال السلطة، لا يدفعه إلا ما يؤمن به من قيم ومبادئ إنسانية عامة لا حزبية ضيقة، أو فئوية متعصبة، أو مذهبية متجمّدة”، وتتطلب مسؤوليته هذه “اليقظة، ورفض الانسياق وراء الأفكار الشائعة، ومن أجل ذلك يستلزم طاقةً عقلانيةً فائقةً، وكفاحاً معقداً للحفاظ على التوازن بين مشكلات الذات عند الفرد ومتطلبات النشر والإفصاح عن الرأي”. وعليه، كان لا بدّ من البحث عن علاقة المثقف السوري مع السلطة ودوره في بناء المجتمع من خلال الحوار مع مثقفين سوريين يلتزمون الخطاب البنّاء في مسيرتهم على اختلاف مشاربهم.
ريما فليحان: كل جهةٍ تحاول خنق الحريات عدوٌ طبيعيٌ للثقافة
الثقافة مصطلحٌ حديثٌ نسبياً، أدخله المفكر المصري سلامة موسى بتعريبه من الألمانية، والأصل فيه زرع القيم، وتنمية القدرات الذهنية والنفسية. ويشير الإنكليز إلى المفكر بالمثقف الذي تعرّفه التشكيلية سنا أتاسي بأنّه “الشخص الذي يمتلك القدرة على التفكير النقدي والتحليل، يمارس دوره في تشكيل الرأي العام وتوجيه المجتمع وتطوير الفكر من خلال توظيف رؤيته الإبداعية في بناء المجتمع والدولة”، فالمجتمع السوري كما تراه فنانة الغرافيك “لوحةٌ غنيةٌ، مزيجٌ متنوعٌ من الأفكار والعادات والتقاليد الاجتماعية شأنه شأن المجتمعات المنفتحة”، وعليه تؤكّد المخرجة السينمائية مسؤولية المثقف السوري (اختلف أم اتفق مع السلطة) بضرورة “تقرّبه منها والتفاهم معها بهدف السعي إلى التطوير والتغيير؛ نظراً إلى دوره الكبير في التأثير على المجتمع ككل، وأن يسعى إلى التماسك الاجتماعي وتوحيد الهدف بين السلطة والمجتمع الذي يتلخّص ببناء دولةٍ سوريةٍ قويةٍ، انطلاقاً من تطوير الفكر العلمي والإنساني والثقافي وتعزيز الانتماء للدولة الذي فقده بعضٌ من أبناء سورية خلال الحرب، وذلك من خلال العمل على زيادة الوعي الفكري بضرورة الاندماج”. وتعتقد صانعة أفلام “الإنيميشن” بأنّه “ليس من الضروري أن نكون لوناً وفكراً واحداً، بل أن يكون المجتمع السوري واحداً بمكوناته المختلفة”، مؤكّدةً على ضرورة مواكبة التطور من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمحاولة لم شمل السوريين “بعد حربٍ منهكةٍ وزمنٍ طويلٍ من حكمٍ دكتاتوريٍ شرذم المجتمع، إضافةً إلى ضرورة إقامة ورشٍ ومحاضراتٍ تعيد تعريف السوريين بعضهم ببعض، وتلملم شتات المجتمع السوري من أجل بناء سورية المستقبل، دولةٌ قويةٌ موحدةٌ متطورة”.
التثقيف كما يفسّره المخرج المسرحي سامر عمران لغوياً وفق ما أورده معجم لسان العرب “تقويم اعوجاج الحديد”. ويتصوّر أستاذ مادة الحركة المسرحية كلمة مثقف “معقدة، فالمعنى تغيّر عبر التاريخ، يعرّفه البعض بأنه العارف بأشياء أساسية من آدابٍ وفنون، بينما يربطها البعض الآخر بآلية التفكير”، ويعتقد عميد كلية فنون الأداء في جامعة المنارة بأنّ “المثقف هو الشخص الذي يفهم روح المجتمع”، انطلاقاً من إيمانه بأنّ “الثقافة هي كنه المجتمع، وهذه البنية الداخلية للمجتمع تشمل جوانب مختلفة ومتكاملة من فنونه وآدابه من جهة، وطقوسه الاجتماعية والدينية من جهةٍ أخرى”، ويرى أنّ “تنوع سورية يعطينا فرصةً أكبر لفهمٍ أشمل للثقافة، فكلما كان الإنسان أقدر على فهم هذه المعارف كان أقرب لمفهوم المثقف، مع ضرورة التنويه بأنّ الثقافة مفهومٌ أعمق من أن يرتبط بالشهادات”، ويحمّل أستاذ المعهد العالي للفنون المسرحية العاملين بالحقل الثقافي “مسؤولية تعزيز الثقافة لإصلاح بنية المجتمع، والتي تختلف باختلاف درجات ثقافتهم التي تتلاءم مع طبقية المجتمع”؛ إذ لا يرى المسرح “للعامة عكس ما يعتقد كثيرون، بل للنخبة التي تبحث عن المعرفة وتطوير أدواتها المعرفية والفكرية والنفسية، والتي تؤثر على الطبقة الوسطى، وبالتالي هي تؤثر على المجتمع، وبقدر قوة تأثيرك على المجتمع وقدرتك على التغيير تكون فعاليتك أهم وقيمتك، وتدخل بالتاريخ، فالمسؤولية مقسمة، لكن طبيعتها تختلف، بيتهوفن مثلاً لا يسمعه كل الناس، لكن لولاه لا توجد أكاديمية تدرّس موسيقا، كذلك دوستويفسكي لا يمكنك أن تكون مثقفاً من دون أن تقرأه ويؤثر عليك كمؤثرٍ في الآخرين، وبالتالي أهميته أكبر. ولكن لا يمكن للمثقف أن يترفّع عن الأحداث، والتنظير لا يعني شيئاً، كل الناس ينظّرون اليوم”. وبناءً عليه، يؤكّد أنّ “المثقف دائماً على خلاف مع السلطة، ليس من مبدأ العداء، وإنما بسبب طبيعة مهامّه التقويمية التي تقتضي أن يشير إلى ما يعتقده خللاً، فهو بذلك دائماً على خلافٍ مع السلوك المعوج، لكن الخلاف ليس الغاية، فالتقويم ليس سلبياً فقط، لكن مهامّ المثقف أن يبحث بالأشياء التي تجعل المجتمع أفضل، فقد يكون على توافقٍ معها. وهذا لا يُنقص من قيمته، فهو بالضرورة ناقدٌ لها إيجاباً أو سلباً، إذ لا بأس أن تعمل مع السلطة شرط أن تعمل من الداخل على تقويمها، وهذه مسألةٌ مهمةٌ في سورية اليوم، شهدناها في عهد النظام السابق؛ إذ عمل كثيرون معه لاعتقادهم بأن العمل من داخل المنظومة يمكن أن يقوّم فيها أكثر من التنظير”.
سامر عمران: المثقف دائماً على خلاف مع السلطة لا عداءً ومهمّته تقويمية
ويؤمن الممثل سامر عمران بحتمية “الاعتراف بتطور أساليب الوصول للمعارف بالتكنولوجيا المعاصرة، وضرورة الاستفادة منها بمقدار ما نستطيع ذلك”، مؤكداً أنّه “يمكنك اليوم أن تستخدم الإنترنت لتطوير أدواتك أو أن تشاهد شيئاَ تافهاً، كما في السابق كان بإمكانك الحصول على كتابٍ قيّم أو مجلةٍ إباحيةٍ بالسر”، ويلتمس الإيجابية في تطور وسائل الاتصال من خلال “توفر المنابر التي يستطيع أصحاب القيم المغيبين عبرها إيصال أصواتهم؛ إلا أنّ أياً كان أصبح قادراً على تقييمها من دون أي خلفيةٍ معرفية، وهنا مسؤوليتنا بتوعية الأشخاص من خلال مواقع التواصل”، لكنه يرى فيها “جانباً إيجابيّاً أكثر”، إذ كان ينتظر “سنين للحصول على كتاب أو قطعة موسيقية”، يحصل عليهم اليوم “بكبسة زرّ”.
تبسّط الإعلامية والناشطة ريما فليحان مفهوم المثقف، فتختزل جوهره بأنّه “إنسانٌ يؤمن بإنسانيّته ويصطف مع الحق والحقيقة والمستضعفين، ويضع أمام عينيه كل تلك العوامل حين يحدد موقفه، انطلاقاً من الحقيقة وتطلعات الإنسان والقيم الإنسانية والأخلاقية التي تدعم المواطنة والحريات الشخصية والعامة”، فالمثقف الذي يترفع عن الأحداث من وجهة نظر مؤسسة اللوبي النسوي السوري “لا فائدة من مخزونه المعرفي حين يحاصر مجتمعاتنا خطر الاستبداد إذا لم يتخذ موقفاً واضحاً يتحدى به الأخطار ويعريها بالكلمة والنضال والوعي من دون تنظير، هذا دور المثقف الحقيقي غير المرتبط بالولاء أو المعارضة للسلطة”. وتؤكّد السيناريست السورية “أحقية كل إنسان بالتعبير عن رأيه”، مع ضرورة التمييز بين “التعبير عن الرأي وخطاب الكراهية والعنف اللفظي والسياسي، فالمساحة تتسع اليوم للجميع ليقولوا كلمتهم، ومسؤولية المثقف أن تكون كلمته واعية مدركة مصطفة مع الحقوق تقف ضد الظلم أياً كان”. وتشير ناشطة حقوق الإنسان إلى معاناة المجتمع اليوم من “أزمةٍ أخلاقيةٍ كبيرةٍ نعيشها بسبب مثقفين يتواطأون على قيم الحرية، فلا ثقافة من دون حريةٍ، وكل جهةٍ تحاول خنق الحريات هي عدوٌ طبيعيٌ للثقافة”.
أكاديمياً؛ تعرّف أستاذة الفلسفة السياسية في كلية الآداب بجامعة دمشق ناريمان عامر المثقف بأنّه “الشخص الذي ينتج الفكر أو ينقده أو يساهم في نشر المعرفة بوعي نقدي يربط بين المُنتَج الفكري والقيم الإنسانية”، وتصنّف أستاذة علم الاجتماع المثقفين إلى صنفين رئيسيين: “مثقفو السُّلطات سواء أكانت سياسية أم دينية أم علمية أكاديمية، ومثقفو الاجتماع البشري المعْنِيِّين بهموم التيارات الاجتماعية وقضاياها، على اختلاف تنوُّع هذه التيارات، والذي عبّر عنه غرامشي بالمثقف التقليدي، والمثقف العضوي”. وترى الباحثة في المنطق البراغماتي سؤال علاقة المثقف بالسُّلطة اليوم “إشكاليّاً، فإذا كان المقصود السُّلطةَ السياسيةَ الحاكمةَ للبلاد، فهو سؤالٌ فاسدُ المبنى؛ إذ لم تعد السُّلطةُ سلطةً واحدة، بل سُلطٌ متعددة، وربما يُقال إنّ السُّلطةَ الحقيقيةَ اليوم هي سُلطةُ وسائل التواصل الاجتماعي والمنصّات الرقمية، بينما السُّلطةُ السياسيةُ جزءٌ من هذه المنظومة”، وتؤمن أنّ “علاقة المثقف بهذه السُّلط أمرٌ يعود إلى تقدير الموقف لا الموقع، فإنْ كان توافقُه معها تسويغاً لما يُخالف المصلحةَ العامة، فهو موقفٌ مذموم، وإن كان هدفُه العملَ ضمن المؤسسات الرسمية سعياً للإصلاح من الداخل، فهو موقفٌ محمود”، وتؤكّد أنّ “الأمر نفسُه ينطبق على المثقف السوري، فالموقفُ هو الذي يحدد: أهو أداةُ تبرير؟ أم رافعةُ إصلاحٍ وبناء؟”، لكنه يواجه اليوم “إشكالاً مرتبطاً بمرحلةٍ انتقاليةٍ تتسم بانتشار الفوضى وانفلات الأفراد من ضوابط القانون، حتى صار صوتُ العقل مُهدِّداً للحياة نفسها!”، وهنا تَبرُزُ “ضرورةٌ لِـلمِّ شمل الفاعلين السوريين ـ مثقفين وغيرهم ـ من أجل دعم بدايةٍ جديدةٍ للدولة السورية، لكن الأمر يتطلب حمايةً قد تكون غير متوفرة الآن، خاصةً مع توسع خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيره المدمِّر على المجتمع السوري، ولعلَّ الجزءَ الأكبرَ من هذا الخطاب يصدر من خارج البيئة السورية، لكن تأثيرَه يطاول البنى الاجتماعية بمجملها، ومنها المثقفون، وهكذا، فإن ضرورةَ وجود المثقف وعمله تواجه اليوم تهديداً وجوديّاً يتجاوز التهديدَ التقليديَّ المألوف”.
ناريمان عامر: ضرورةَ المثقف تواجه اليوم تهديداً وجوديّاً
علمياً؛ يفسّر أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق أحمد الأصفر مصطلح المثقف بأنّه “من المفاهيم التي تحمل في مضامينها معاني مختلفة تتباين في دلالاتها بين الثقافات والحضارات المتعددة، وهو مفهومٌ نسبي يقوم على تفاضل مستويات المعرفة في قضيةٍ محددةٍ أو مجالٍ معرفي بين مجموعة من المعنيين بذلك؛ ما يجعل الأشخاص الأكثر معرفة بموضوع الاهتمام هم الأقدر على تقديم رؤى متكاملة حوله، وهؤلاء هم المثقفون. ويتقاطع مفهوم المثقف مع مفهوم العَالِم المختص، ومن بين من هم في الاختصاص الواحد تباينات تجعل الأكثر معرفة هو المثقف بالموازنة مع قرينه، وإذا كان عالم الفيزياء وعالم الاقتصاد والقاضي والأديب ورجل الدين أكثر معرفةً في مجال تخصّصهم، فإن المثقف كل واحد من هؤلاء يولي اهتمامه بقضايا عامة تعد موضع اهتمام الرأي العام، لما لها من انعكاسات على الحياة الاجتماعية العامة؛ ما يجعل الناس ينشدّون إليه ويبحثون عن المعارف التي تساعدهم في الإجابة على تساؤلاتهم. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد كثيرون بأنّهم الأكثر معرفة بقضايا الرأي العام، ما يجعلهم في عداد المثقفين، لكن الأمر في حقيقته غير ذلك تماماً، وغالباً ما تترتب على ذلك مشكلة أنّ دعاة الثقافة في المجتمع أكبر بكثير من المثقفين الحقيقيين فيه”. ويشير أستاذ علم اجتماع التنظيم إلى اختلاف المجتمعات الإنسانية بمسألة علاقة المثقف مع الدولة، ففي المجتمعات الأكثر تطوّراً “غالباً ما يحاول المعنيّون باتخاذ القرار على مستوى الدولة البحث بشكل فعلي عن المثقفين للاستعانة بهم في اتخاذ القرارات السليمة التي تمتد المنافع المترتبة عليها إلى عامّة الناس، فتقوم على ما يقدمه المثقفون من تحليلاتٍ وأطرٍ معرفية في ضوء المعارف التي تتوافق مع الواقع؛ ما يجعل هذه القرارات قابلة للتطبيق والتحقق، ولا توجد فجوة بين المثقفين والمعنيّين باتخاذ القرارات على مستوى الدولة بما يتوفر لدى الفريقين من مصداقيةٍ وطنيةٍ في معالجتهما القضايا العامة، وحتى في حالات الاختلاف والتباين، فإنّ القانون يضمن لكل منهما مجال عمله ويحدد مسؤولياته”. وبالانتقال إلى المجتمعات الأخرى، والتي تقترن حياتها السياسية “غالباً بمظاهر الاستبداد والسيطرة، ومع غياب القوانين الضابطة لعمل المثقفين وعمل المعنيّين باتخاذ القرار، فإنّ الفجوة بينهما تتسع، ويصبح اهتمام كلٍّ منهما مختلفاً عن اهتمام الآخر، خصوصاً مع اتساع الفجوة في مستويات معرفتهم بموضوعات الرأي العام، وتزداد المشكلة تعقيداً مع هيمنة شعور كل منهما بأنّه هو من يمثل المصلحة العامة ومعنيّ بالدفاع عنها، فتتجلى المشكلة لدى المثقف باعتقاده أن المعنيّ باتخاذ القرار يدافع عن نظام اجتماعيٍ وسياسيٍ من دون أي اهتمامٍ بالمصلحة العامة، مقابل منافع كثيرةٍ تعود إليه، فيما يشعر المعنيّ باتخاذ القرار أنّ جماعات المثقفين يدافعون عن مصالح ضيّقة في حدود تجاربهم الاجتماعية، من دون أي اهتمامٍ بالقضايا العامة، ومن دون أي إحساسٍ بالمسؤولية. ومع اتساع هذه الفجوة يصبح التقارب غايةً من الصعوبة، وتصبح المشكلة أكثر تعقيداً مع اختلاف المرجعيات الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع، والتي يترتب عليها اختلافٌ في النظام النموذجي لمفهوم الدولة، فالمثقف الذي يستمد تصوّره لمفهوم الدولة النموذجية من اعتقادٍ دينيّ يجد في نموذج الدولة المدنية استبداداً وسيطرةً ليست لها أي شرعيةٍ لمخالفتها أحكام الشريعة، كما يرى فيها تحكماً يناقض الخصوصيات التاريخية التي تميّز هذا المجتمع، بينما يجد المثقفون من دعاة المدنية والمواطنة في الحكم الديني سيطرةً وتحكّماً وانفصالاً عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وانفصالاً عن المرحلة التاريخية التي يعيشها المجتمع، والمشكلة في هذه الحالة ليست في المثقف بذاته، أيّاً كان توجهه الفكري والسياسي، ولا هي بالمعنيّ باتخاذ القرار، إنما هي بطبيعة العلاقة بينهما، وبالتباعد بينهما في التصورات والأفكار والرؤى المتناقضة”. ويعاني المجتمع العربي السوري من “تحدّياتٍ كبيرةٍ للغاية”، توجب، وفق قراءة مؤلف كتاب “الجماعة وخصائص التفاعل الاجتماعي”، على المثقف وعلى المعنيّ باتخاذ القرار “أن يتفاعلا معاً؛ لأن كمال أي منهما لا يتحقق إلا من خلال تعاونهما، فاستبداد المعنيّ باتخاذ القرار برؤيته وفرضها بحكم القوة يدفعه إلى الانفصال عن المجتمع شيئاً فشيئاً، ويساهم في توسيع الفجوة التي تفصله عن الرأي العام، وتفصله عن المثقف، كما أنّ تقوقع المثقف في دوائر ثقافيةٍ محدودةٍ يدفعه إلى الابتعاد أيضاً عن قضايا الناس ومشكلاتهم، ويجعله أقرب إلى الخيالية والرومانسية؛ ما يقلل من دوره الثقافي، ويساهم في تشتيت الرأي العام، فيجعل الضرورة ملحّة لأن يصبح كلاهما مكملاً للآخر في عمليات اتخاذ القرار، وفي عمليات بناء الدولة والمجتمع، وليس من الصحيح أن يكون المثقف على الطرف النقيض من المعنيّين باتخاذ القرار، ولا أن يكون تابعاً له بالضرورة، وليس من الصحيح أيضاً أنّ كل صاحب قرار هو معنيّ بالمصلحة العامة، فالوقائع التاريخية تفيد بأنّ أعداداً كبيرةً من المعنيّين باتخاذ القرار كانوا يتجملون بالوطنية والانتماء على مستوى الشكل، ولكنهم كانوا أعداءً حقيقيّين على مستوى المضمون، والانتماء الحقيقيّ للدولة والمجتمع يوجب الاستماع للآخر والتفاعل معه في إطارٍ قانونيٍ واضحٍ ومحدّد”.
طارق الأحمد: المثقف ليس ذلك الشخص الأكثر اطلاعاً ومعرفةً وحسب، فإذا لم يكن فاعلاً بمقدار معرفته، لا تحتاجه البشرية
يقول المفكّر والسياسي أنطون سعادة إنّ “العلم الذي لا ينفع هو كالجهل الذي لا يضر”. انطلاقاً من مدرسته يؤمن القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي طارق الأحمد بأنّ “المثقف ليس ذلك الشخص الأكثر اطلاعاً ومعرفةً وحسب، فإذا لم يكن فاعلاً بمقدار معرفته، لا تحتاجه البشرية، وبالتالي هناك فرقٌ بين المطلع والمتعلم والمثقف”، مستشهداً بالفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي فهو “معروفٌ رسّاماً لكنه مخترعٌ مثقف، كان أيضاً مصمّماً، أفاد البشرية بتصميمات لم يتسنَ له أن يطبقها، فقد وضع تصميمات للمظلّة وطائرة الهيلكوبتر، فلم يحصر ثقافته في الإطار النظري فقط، بل وضع لبنةً باتجاه خدمة البشرية، إذ ليس المطلوب منه أن ينجز الاختراع بشكل نهائي، فهو عملٌ تراكمي يكمّله أحدٌ بعده”. ويعتقد المخترع ومهندس اللدائن السوري بأنّ “المثقف يزجّ نفسه في خدمة الثقافة التي يمتلكها، ومشروعه في رفع منسوب الوعي، فإن كان نشر المقالات والكتب غير كافٍ للتغيير في المجتمع عليه أن يبحث بنفسه عن طريقةٍ أخرى، فقدرة التأثير معيارٌ أساسيٌ للمثقف”، متمثلاً بمسيرة الراحل أنطون سعادة الذي “لم يكتفِ بالتنظير، بل ألقى نفسه في صلب العمل السياسي من أجل أن يطبق فلسفته، أسس حزباً وترأسه، وزج نفسه بالثورة والنضال ودفع حياته ثمناً، إذ نُفِذ فيه حُكِم الإعدام خلال يومٍ واحد”. إضافةً إلى مسيرة والده “عبد الله الأحمد الأديب والمفكر الذي كان متنوعاً في ثقافته بين السياسة والعلم والاختراع”، ولا يمكن للمثقف من وجهة نظر مؤسس ائتلاف قوى التغيير السلمي “ألا يكون معارضاً بالمبدأ، ودوماً يشير إلى السلبيات، فلا يمكن أن يكون على وفاق مع سلطةٍ راهنةِ”، متبنياً فلسفة الراحل عاصي الرحباني الذي قال في إحدى مسرحياته “كل حكمٍ على الأرض باطل”، وعليه يفترض رئيس مجلس إدارة جمعية سورية المدنية أن يكون المثقف “دوماً في حالة معارضة مع السلطة”، مشيراً إلى أنّه “لا ينتقص من قيمته الفكرية إن كان على وئام معها، لكن دوره ينتهي”، مع أهمية “تشجيع السلطة عندما تصلح من نفسها”، شرط ألا يكون على وئام معها؛ لأن الوئام “يعطي طابع الاستدامة”، وفي الحالة السورية اليوم على المثقفين أن يكونوا “في حالة معارضةٍ شديدة”. ويقف رئيس اللجنة العلمية السابق في جمعية المخترعين السوريين موقف الحياد من تأثير وسائل الاتصال على سوية الفكر، ففي حين يلتمس “الأثر السلبي لانتشارها على قدرة الأدمغة على الإنتاج الفكري والأدبي من خلال التشويش الإلكتروني في عصر سرعة المعلومة الذي أبعد الناس عن قراءة الكتب والمعلومات الأكثر عمقاً لصالح انتشار الفيديو القصير، ما تسبب بسطحية الكثير من القضايا المتداولة”، يدرك أنّه في الوقت نفسه “ساهم بانتشار المعلومات بشكل كبير، فهو مصدر غنى هائل، على المتلقّي إن كان مثقفاً أن يستفيد منه، وهذا الأمر يتيح سرعة الوصول إلى العلوم أكثر بكثير من الماضي التي كانت محصورةً بالأوراق”. وهو ككل تقنيّة جديدة سلاح ذو حدّين، فهو أداة لنشر المعرفة في المجتمع، وفي الوقت نفسه، يمكن أن ينشر المعلومات المضلّلة والمحرّضة، ويمكن أن يكون أداة لنشر الكراهية والتحريض، كما يحصل الآن في هذه المرحلة.