الرئيسية

"عبروا في صمت"… عن الاستبداد وأشياء أخرى



عبارة “عبروا في صمت” مستلهمة من فيلم سينمائي مغربي يحكي عن تجربة صحافي عانى الأمرين في مساره في الكتابة وإجراء التحقيقات الصحافية حول ملفات فساد مؤسسات الدولة، فكانت نهايته الاغتيال السياسي. أحداث الفيلم تسترجع ذكريات ما يُعرف في أدبيات الحركة الحقوقية والديمقراطية بـ”سنوات الجمر والرصاص”.

ونحن لا نجد خيرًا من هذا المجاز في التعبير عن واقع المنطقة المؤسف، واقع سمته الأساسية القمع والعنف المادي والرمزي. لقد صار ما يُسمى بـ”الوطن العربي” سجنًا صغيرًا يعاقب الكلمة الحرة ويبيدها عن بكرة أبيها، ومع أن الإنسان خُلق ليفكر ويعبر وينمي الكون بالمتوفر له من الوسائل، إلا أن نقمة السلطة تأبى إلا أن تبدع شعوبًا خرساء صماء لا ترى إلا ما يرى أصحاب السلطة، فلا تفكر ولا تنظر ولا تدبر، فيا لبشاعة الصورة!

بذلت الشعوب “المسكينة” الغالي والنفيس في سبيل أوطانها، فخاضت معارك طاحنة مع المستعمر الغازي من أجل تحرير أراضيها، حتى عُذب من عُذب ومات من مات من أبنائها وبناتها، إلى أن تحقق الخلاص من المستعمر الجلاد، وقامت دولة الاستقلال بطموحات الحرية والعدالة والكرامة، وبشعارات تشرئب لها الأعناق وتطمئن لها النفوس. فماذا كانت النتيجة؟ لقد فشلت الدولة في تأسيس دولة، دولة أو دول تحتضن كل أبنائها، وتوفر لهم الحد الأدنى من الطبيعة الإنسانية المتمثلة في الحق في الكلمة.

أخفقت إذن الدولة في المنطقة العربية والمغاربية في ضمان الحق في الكلمة للجميع، ومع أن هذا الحق لا يتطلب تكلفة مادية، بمعنى لا يستلزم تعبئة ميزانيات مالية ضخمة واستثمارات فخمة، فهو يحتاج إلى شيء واحد هو الإيمان الصادق بإنسانية الجميع من غير تشويه أو تمويه. غير أن أصحاب السلطة يعادون هذا الحق الإنساني المقدس، لأنهم يعون التكلفة السياسية الباهظة لتمتيع الشعوب بحقها في الكلام والتعبير، إنها التكلفة التي تساوي إزاحتهم من حيزهم السلطوي المهيب.

لقد رأى كل العالم لحظة “الربيع العربي” (يطلقون عليه في المغرب الربيع الديمقراطي)، وبالأحرى تلك “الفسحة الصغيرة” التي قالت فيها الشعوب كلمتها رغمًا عن أنظمتها السلطوية، وتحدت كل آلياتها القمعية. لقد شهدت الدنيا على ملاحم فرار المستبدين من قصورهم العتيدة التي بنوها على أنقاض الفقراء والمساكين وأشلائهم وآلامهم.

ولأن بنية الاستبداد المتجذرة لا تستنتج من دروس الماضيين البعيد والقريب، تستغرق في إنتاج الأمراض نفسها وتجتر الأعطاب نفسها، فتعود بعد “استراحة” قصيرة إلى ممارساتها العتيقة، أو كما يقولون في المغرب “عادت حليمة إلى عادتها القديمة”. لا يفهم أصحاب السلطة أو لا يريدون أن يفهموا أن الطبيعة تأبى الفراغ، مما يعني حتى لو توارت الجموع الشعبية عن الكلام والتعبير، ومن ثم فشلت في استرجاع حقها المشروع في الكلمة، فلا بد من بقاء قلة قليلة تحقق التوازن الذي تقتضيه طبيعة الأمور. ستستمر هاته القلة في تحدي أصحاب السلطة بالاقتراف العلني لجريرة التعبير، ومن ثم لن تتحقق النبوءة السلطوية: عبروا في صمت!