هل القبول والتسليم بسلطة ما هو موجود من تصورات وأفكار ويقينيات ومخيال اجتماعي أمر طبيعي ومقبول؟ أم أنه منحى نمطي يحيل على إلغاء الذات وتكريس الرتابة والركود والتضعضع ثم الاندثار؟
لا يخفى أنه من السهل التسليم بما هو متاح والانخراط في تجسيده ماديًا ومعنويًا، وبالتالي الترويج لمحتواه وتكريس سطوته على البنيات الذهنية والنفسية والفكرية. أليس في تبنيه راحة للعقل الذي يستسلم للكسل والعطالة والاتكالية ما دام هناك من ينهض بمهمة التفكير والتمحيص والتدقيق نيابة عن الذات ويبعد شبح الوجع والمعاناة؟ لكن، في ظل هذا الخيار، تفقد الذات هويتها وتنسلخ بالكامل في الهوية الجماعية وتصير جزءًا من العامة لا يكترث أحد بوجودها أو غيابها ما دام هناك العديد من أمثالها وعينتها. ربما هي العينة التي تعين التفاهة على التوغل والاستبداد على التمدد والتعمق وتنفر الفكر والتفكير وتزدري الإبداع والاختلاف.
غني عن البيان القول إن الذات أوجدت لمهمة معينة وجب عليها السعي نحو معرفتها وإتمامها على أحسن وجه ومسايرة حركة الكون المستمرة عن طريق العمل الدائم في بناء الفكر والقناعات وصقل المواهب والمهارات. من هنا نرى ضرورة الاختلاف والتميز الإيجابي البناء ووجوب مجابهة التنميط والتدجين والقولبة.
أهدي الإنسان نعمة التمرد من خلال إعمال العقل والنزوع إلى الرفض بمعية الحس النقدي والعقل التحليلي، لا نتحدث عن الرفض من أجل الرفض فقط أو تبعًا لمقولة “خالف تعرف”، بل بحثًا عن إبراز الذات وفرض الحضور وتحقيق التميز الطبيعي المطلوب والخروج عن السواد الأعظم من الناس. نتحدث ضمنيًا عن انسياق طبيعي وبيولوجي في سيرورة التطور بحثًا عن النضج والأفضل ما دام الارتكان إلى نفس الوضع الطبيعي هو بداية التراجع والتضعضع.
يمكن تصنيف التمرد إلى نوعين رغم تشابك العناصر وصعوبة التفكيك. في ما يخص التمرد الداخلي، نميل إلى الاعتقاد أن التمرد على دواخل الذات يرتقي إلى مقام الجهاد الهادف إلى الإصلاح والتقويم والتحسن. من بين عناصر متعددة نلح على: التمرد على الغرور والأنفة وغلبة النفس على العقل، الاستماتة في كبح الغرائز والرغبات والشهوات، التمرد على استعباد الذات واستصغارها واحتقارها وجلدها، ممانعة الانصياع الطوعي والاتكال والطاعة العمياء والغفلة والانكسار وانحدار الذوق، الحفاظ على حق الاختيار، الحرص على تنمية الذكاء وكيفية توظيفه في الاختيارات والقرارات، التمرد على الأوهام والأحكام المسبقة، بناء متغير باستمرار لبعض المفاهيم والتصورات من قبيل: الرضا والقناعة والراحة والكرامة والوطن.
في المقابل، ينكب التمرد الخارجي على توصيف وفحص ما يسود في المحيط الخارجي من مؤثرات وينحو بالذات إلى الانخراط في مقاومة وممانعة البيئة الخارجية وبناء طريقة تعامل عقلانية مع عناصرها. من المؤكد أن الذات مستهدفة من جهات متعددة وبوسائل جد مركبة، لذلك لا مناص من حمايتها من كل ما يهدد سلامها الداخلي أو يشوه تصوراتها وطريقة قراءتها الأمور والأحداث. حقيقة، يقي التمرد صاحبه من الانسياق وراء محاولات الاستلاب الثقافي، التدجين، التنميط، نشاط آلة البروباغندا، ويهديه الترفع عن الأفكار السلبية والهدامة، ويجعله في منأى عن صناعة الرغبات والشهوات للإقبال على الاستهلاك، ويقربه من الظفر باستقلالية التفكير والاختيار والحسم.
في التمرد جسارة ورؤية ونمط عيش ومن سراجه تنطلق الحرية والكرامة وتكتسب الحياة معناها وماهيتها، إنه الهادم للهدم والمائل عن الميل والهادي لطريق الحكمة والمعرفة
مما لا مرية فيه أن التمرد على الذات يضمن ويستديم المراقبة الذاتية والمحاسبة والمساءلة ويعين على بناء مستمر للشخصية ويشجب كل أشكال الانصياع والخضوع والتبعية. إنه الهادم للهدم والمائل عن الميل والهادي لطريق الحكمة والمعرفة، يولد في النفس حرارة ويشد بعزيمتها ويمد الهمم بطاقة الدفع نحو التحرك، يحيي العقول ويستفزها ويولد حركية التفكير ويقود نحو إبداع الأفكار، يكون خير مؤنس للذات في عزلة رحلة البحث عن الطموحات وسبل تحقيقها ومحاولة فهم حقيقة الأحداث والوقائع ويرفع الغباوة والتقاعس والاستكانة والغبن وقصر النظر.
في التمرد جسارة ورؤية ونمط عيش، ومن سراجه تنطلق الحرية والكرامة وتكتسب الحياة معناها وماهيتها. ولنا في رأسمالنا الرمزي أمثلة متعددة جسدت التمرد وقادت ثورات غيرت مجرى التاريخ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تجربة سيدنا إبراهيم في بحثه عن الخالق الحق، مدرسة غار حراء وتجربة التدبر والتفكر مع سيدنا محمد، تجارب المقاومة ضد الاستعمار مع محمد بن عبد الكريم الخطابي وعمر المختار.