الرئيسية

أوكرانيا والضمانات الأمنية: رسم نظام أمني مستقبلي لأوروبا



المدفعية الأوكرانية تهاجم الروس في زابوريجيا، 20 أغسطس 2025 (Getty)

في مؤشر إلى أهميتها والتباين الكبير بخصوص طبيعتها وتأثيرها المباشر في الوصول إلى تسوية سلمية أو استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، شكلت الضمانات الأمنية محور اجتماعات حلفاء أوكرانيا ونقاشاتهم بعد قمة ألاسكا بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في 15 أغسطس/آب الحالي. في المقابل بدا تركيز موسكو واضحاً على إعادة تأكيد خطوطها الحمر بشأن “مبدأ الأمن الجماعي ومبادئ الأمن غير القابلة للتجزئة”، وحل “الأسباب الجذرية” لوضع حد للحرب، في محاولة لتحميل أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين مسؤولية إحباط محاولات ترامب للوصول إلى تسوية سلمية. وفيما ترسم التسويات حول التنازل عن الأراضي الأوكرانية التي احتلتها القوات الروسية حدود أوكرانيا الفعلية في المستقبل، فإن طبيعة الضمانات الأمنية التي ستقدم لأوكرانيا بعد الحرب لا تحدد قدرة كييف في الدفاع عن باقي أراضيها فحسب، بل طبيعة النظام الأمني الجديد في القارة العجوز بعد انتهاء الحرب، والعلاقات بين جناحي حلف شمال الأطلسي “ناتو” على طرفي الأطلسي، وربما تمهد لوضع أسس لنظام أمني عالمي جديد.

مطالب ومكاسب

ومن غير المستبعد أن الطرح الروسي في “التنازل” عن المطالب في الاستحواذ على كامل أراضي المقاطعات الأوكرانية الأربع (خيرسون، زابوريجيا، لوغانسك، دونيتسك) التي ضمتها موسكو خريف 2022، والتشدد في قضية الضمانات الأمنية، جاء في إطار تكتيك تفاوضي مدروس لتحميل أوكرانيا مسؤولية فشل محاولات ترامب لتسوية الأزمة وإنهاء الحرب، وبالتالي تعرّضها لضغوط أميركية، والخروج بأكبر مكاسب قبل أي قمة ثنائية بين بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أو ثلاثية مع ترامب، إضافة إلى توسيع الشقاق بين إدارة ترامب من جهة والاتحاد الأوروبي وزيلينسكي من جهة أخرى. والتنازل عن الهدف الأقصى باحتلال كامل أراضي المقاطعات الأوكرانية الأربع، يفتح المجال لترامب بالقول إنه أقنع بوتين بالعدول عن مخططاته لاحتلال هذه المناطق، ويبرر عدم تشجع ترامب للمشاركة المباشرة في تقديم الضمانات الأمنية لأوكرانيا، وتحميل أوروبا القسط الأكبر من هذه الضمانات.

تسعى روسيا لتوسيع الشقاق بين ترامب من جهة والاتحاد الأوروبي وزيلينسكي من جهة أخرى

ورغم أن التركيز الإعلامي ينصب على موضوع الأراضي، وهل يمكن أن تقبل أوكرانيا الاعتراف باحتلال روسيا قرابة 20% من أراضيها، انطلاقاً من أنه من السهل تصوره عبر النظر إلى خريطة أوكرانيا وروسيا، وخطوط التماس الحالية، فإن موضوع الضمانات الأمنية معقّد وشائك ومرتبط بأمن أوكرانيا وأوروبا، ويجب أن يراعي التجارب التاريخية، ويرسم تصوراً لمنظومة الأمن المستقبلية، من أجل خلق الشروط الكفيلة بضمان سلام دائم ومستقر، وعليه فإن الأطراف قد تقدّم تنازلات عن الأراضي من أجل ضمان سلام دائم. وكشفت تصريحات المسؤولين الروس والأوكرانيين والغربيين عن اختلافات جذرية في مفهوم الضمانات الأمنية وطبيعتها ومهمتها والأطراف التي يمكن أن تنخرط بها. وذكرت “رويترز” أمس الأول الخميس أن وزراء دفاع الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوروبية، أعدوا خطة مفصلة لضمانات أمنية بعد اجتماعات متواصلة منذ الثلاثاء الماضي، على خلفية تعهد ترامب بالمساعدة في الدفاع عن أوكرانيا في جزء من أي اتفاق لإنهاء الحرب مع روسيا، في قمة مع زيلينسكي وقادة أوروبيين عُقدت في واشنطن في 18 أغسطس الحالي.

وذكر البنتاغون في بيان، أن خيارات الضمانات الأمنية ستُعرض على مستشاري الأمن القومي في كل دولة. وكان ترامب كشف الثلاثاء الماضي لشبكة “فوكس نيوز” أن الضمانات الأمنية قد تشمل دعمها جواً ونشر قوات أوروبية على الأرض. واستبعد ترامب بشكل قاطع إمكانية انضمام أوكرانيا إلى حلف “ناتو”، مشدّداً على أن واشنطن لن تنشر أي قوات على الأرض في أوكرانيا، وقال “عندما يتعلّق الأمر بالأمن، إنهم (الأوروبيون) مستعدون لنشر أشخاص على الأرض”، وزاد “نحن مستعدون لمساعدتهم بأمور معينة، خصوصاً، على الأرجح جواً، لأن أحداً لا يملك ما نملك، حقيقة”. وانطلاقاً من تجارب تاريخية قاسية، ترغب أوكرانيا بالحصول على أقصى ضمانات أمنية لمنع أي غزو روسي لأراضيها بعد وقف إطلاق النار، وخلق ظروف لرفع ثمن أي محاولة لغزوها مجدداً، ودفع بوتين أو من يخلفه للتفكير في العواقب والتخلي عن خطط إنهاء أوكرانيا الدولة. وأغلقت تصريحات ترامب وأركان إدارته الباب أمام ضم أوكرانيا لحلف “ناتو”، ولكنها تسعى إلى ضمانات على غرار المادة الخامسة للحلف، أو التزامات شبيهة بالتزامات الحلف والولايات المتحدة لبلدان مثل كوريا الجنوبية، وإسرائيل.

وانطلاقاً من أن الضمانة الأولى والأهم لأي دولة تكمن في قواتها المسلحة من حيث العدة والعتاد، كشفت تجارب الحرب المتواصلة منذ أكثر من 36 شهراً أن الجيش الأوكراني قادر على إبطاء التقدم الروسي وشن هجمات معاكسة، والوصول إلى العمق الروسي، ولكن إمكاناته ليست كافية لوحدها على المدى البعيد. واعتماداً على إرثها السوفييتي، وخبرات سنوات الاستقلال، عملت كييف على زيادة صناعاتها العسكرية رغم الحرب، وكشفت تقارير في الأيام الأخيرة عن تطوير صواريخ من نوع “فلامينغو” يصل مداها إلى ثلاثة آلاف كيلومتر، إضافة إلى التقدم الكبير في المسيّرات الجوية والبحرية. ولكن انهيار الاقتصاد الأوكراني لا يسمح، من دون دعم الحلفاء، بتطوير الصناعات العسكرية، ولا الاحتفاظ بجيش كبير وتجهيزه. وتسعى أوكرانيا إلى نشر قوات عسكرية أجنبية على أراضيها، مجهزة بأسلحة ودبابات وطائرات، وقادرة على ردع أي محاولة روسية لتكرار اعتداءاتها على أراضيها. ويدور الحديث عن قوة قتالية يتراوح عددها بين 50 و100 ألف مقاتل من دول لا ترغب روسيا في مواجهتها.

موسكو تسعى مجدداً لكسب الوقت من أجل قضم مزيد من الأراضي في دونباس

تحذير من عدم كفاية الضمانات الأمنية

وتحذر أوكرانيا من أن عدم وجود ضمانات أمنية كافية يمكن أن تعيد تكرار التجارب الماضية، في اشارة إلى أنها وافقت في 1994 على التخلي عن أسلحتها النووية مقابل ضمانات أمنية دولية. وبموجب مذكرة بودابست، تعهدت الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين وفرنسا بضمان “سلامة الأراضي” الأوكرانية و”استقلالها السياسي”، وكذلك “الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها”. واضطرت أوكرانيا إلى التخلي عن ترسانتها النووية بضغوط من إدارة بيل كلينتون، وفي مايو/أيار 1997 وقع الرئيس الروسي بوريس يلتسين معاهدة صداقة مع نظيره الأوكراني ليونيد كوتشما، اعترفت روسيا بموجبها بحدود أوكرانيا ما بعد الحقبة السوفييتية. وكجزء من الاتفاق، منحت كييف موسكو معظم أسطولها البحري، وأجّرت ميناء سيفاستوبول في القرم لروسيا لمدة 20 عاماً. ولم يمنع أي من الاتفاقين الحرب، ففي عام 2014 استخدم الكرملين قواته المتمركزة في القرم للاستيلاء على شبه الجزيرة وضمها، ودعم المجموعات الانفصالية في دونباس (تضم إقليمي لوغانسك ودونيتسك)، قبل الدخول في حرب 2022. وتزداد الخشية الأوكرانية من عدوان روسي جديد مستقبلاً نظراً لأن النخب الروسية وفي مقدمها بوتين، تنظر إلى أوكرانيا على أنها دولة مصطنعة أسسها البلاشفة.

وبعد نجاح روسيا في إقناع ترامب بعدم الحاجة إلى وقف لإطلاق النار، والانطلاق إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار مع معالجة القضايا الجذرية للصراع، بدا أن موسكو تسعى مجدداً لكسب الوقت من أجل قضم مزيد من الأراضي في دونباس. ورسم وزير الخارجية سيرغي لافروف بوضوح يومي الأربعاء والخميس الماضيين، خطوط موسكو الحمراء بشأن الضمانات الأمنية، وأبدى تشدداً واضحاً. وفي الوقت ذاته فتح الباب أمام جولات مفاوضات طويلة بين روسيا من جهة والأوروبيين والأوكرانيين من جهة أخرى، حول قضايا الأمن في أوكرانيا وأوروبا، مستغلاً نأي إدارة ترامب بنفسها عن الانخراط الكبير في توفير الضمانات الأمنية. واتهم لافروف قادة أوروبا بمحاولة تقويض التقدم الذي جرى إحرازه في قمة ألاسكا، وجدد مخاوف بلاده بشأن الطريقة التي تجري بها المناقشات الأوروبية حول الضمانات الأمنية لأوكرانيا من دون مشاركة موسكو. وشدّد لافروف على أي أفكار تبتعد عن تلك التي حددتها روسيا في المحادثات مع أوكرانيا في إسطنبول في عام 2022 هي أفكار لا طائل منها.

ويسعى الروس إلى تثبيت ورقة طرحت في مفاوضات مع الجانب الأوكراني في إسطنبول في مارس/آذار وإبريل/نيسان 2022. وحسب الجانب الروسي فإن أوكرانيا وافقت على حيادها وعدم انضمامها لـ”ناتو”، وتقليص عدد جيشها وعتاده مقابل وقف الحرب، لكن رئيس الحكومة البريطانية حينها بوريس جونسون أقنع زيلينسكي بمواصلة الحرب. والأربعاء الماضي، حذّر لافروف من عواقب تراجع كييف عن مبدأ الحياد في إطار الحديث عن الضمانات الغربية، التي نظر بعضها في وضع آلية تعادل البند الخامس من ميثاق حلف الأطلسي، محذّراً من أنه “إذا رفضت كييف الحياد وعدم الانضمام إلى حلف الناتو، فإن الأحكام التي تُشكل أساس الاعتراف باستقلال أوكرانيا ستختفي”. وذكر أن إعلان الاستقلال الأوكراني ينص بوضوح على وضع الدولة الأوكرانية غير النووي والمحايد وغير المنحاز. وهاجم لافروف بقوة القادة الأوروبيين، واشار إلى أنهم لم يتطرقوا إلى أمن روسيا ولو لمرة واحد رغم تأكيدهم على ضمانات لأمن أوروبا وأوكرانيا.

وبرزت في الأيام الأخيرة خطة عرضتها رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني تنطلق من عدم انضمام أوكرانيا لـ”ناتو” مقابل ضمانات بحماية تحاكي المادة الخامسة. وأبدت عدة دول أوروبية رغبتها بنشر قوات على الأرض، ولكن التفاصيل غير واضحة ومن غير المعروف عدد القوات، أو مكان نشرها، وما هي أسلحتها، وكيف سترد في حال خرق روسيا لأي اتفاق وقف للنار. وبانتظار تكشف هذه التفاصيل، ومحاولة الخروج بموقف أوروبي موحد، أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء الماضي، إلى أن “أول ضمانة أمنية نعمل عليها، وهي الأهم، هي وجود جيش أوكراني قوي يتألف من عدة مئات الآلاف من الجنود، مجهزين جيداً، مع أنظمة دفاعية ومعايير أعلى”. وأضاف: “أما الثانية فهي وجود قوات طمأنة، من البريطانيين والفرنسيين والألمان والأتراك وغيرهم، تكون جاهزة لتنفيذ هذه العمليات، ليس على خط المواجهة، وليس بطريقة استفزازية، بل عمليات طمأنة في الجو، وفي البحر، وعلى الأرض. الهدف هو توجيه رسالة استراتيجية: السلام في أوكرانيا هو شأننا أيضاً”.

“بلومبيرغ إيكونوميكس”: إعادة بناء الجيش الأوكراني تكلف حوالي 175 مليار دولار على مدى عشر سنوات

أوكرانيا… قلعة بوجه روسية

وربما ترغب أوروبا في تقوية أوكرانيا لجعلها قلعة أمامية في وجه أي محاولة لروسيا لاستهداف أي من بلدان القارة، وكسب وقت إضافي حتى تصبح قادرة على صد أي هجوم روسي ممكن. وبدأت الشركات الدفاعية الأوروبية بتزويد أوكرانيا بعدة أنواع من الأسلحة، وساعد بعضها أوكرانيا في توطين بعض أنواع القذائف والمعدات، ومع عجزها عن تلبية كل الاحتياجات ذهب الحكومات الأوروبية إلى شراء أسلحة أميركية ونقلها إلى أوكرانيا. وفي حين أقرت معظم بلدان “ناتو” الأوروبية برفع الإنفاق الدفاعي إلى نحو 5%، ورصدت مبالغ كبيرة للدفاع، فإن النتائج لتغيير موازين القوى مع روسيا تحتاج لسنوات. وتبرز أسئلة حول تأمين المبالغ اللازمة لدعم أوكرانيا في قضايا الدفاع والمحافظة على جيش قوي.

ووفقا لحسابات “بلومبيرغ إيكونوميكس” في تقرير نشر في مارس الماضي، فإن إعادة بناء الجيش الأوكراني تكلف حوالي 175 مليار دولار على مدى عشر سنوات، اعتماداً على حالة قواتها عند التوصل إلى تسوية ومقدار الأراضي التي ستحتاج للدفاع عنها، وستتكلف قوة حفظ سلام قوامها 40 ألف جندي حوالي 30 مليار دولار خلال نفس الإطار الزمني، على الرغم من أن زيلينسكي يقول إن الأمر سيتطلب المزيد من القوات. وحسب التقرير ذاته، فإن حماية أوكرانيا وتوسيع جيوشها قد يكلف القوى الكبرى في القارة الأوروبية 3.1 تريليونات دولار إضافية على مدى السنوات العشر المقبلة. وحذرت “بلومبيرغ” من أن هذا الالتزام يمكن أن يكشف عن التصدعات التي ظل الاتحاد الأوروبي يتغاضى عنها لسنوات. ونقلت حينها عن بعض الزعماء والعديد من المسؤولين الأمنيين من أنه “إذا فشل الأوروبيون في تشكيل رادع مقنع، فإن بوتين سيزيد من محاولاته لإضعاف الاتحاد الأوروبي وحلف ناتو بل وتفكيكهما في نهاية المطاف”.