الخبر من هناك، من بلدة فيا هيدالغو يالالاغ (أعتذر لصعوبة الاسم وآمل أنني كتبتُه صحيحاً)، وهي بلدة صغيرة (سكّانها 1800 نسمة) في ولاية واهاكا جنوبي المكسيك. موجزُه أن الشركة الألمانية للملابس الرياضية، أديداس، قدّمت، أول من أمس الخميس، اعتذاراً لأهالي هذه البلدة الذين اتّهموها، محقّين، بالاستيلاء على موروثٍ ثقافي لديهم، وهو صنادل مصنوعة يدويّاً (لمن يهمّه الأمر، اسمُها هواراتشي)، في تصميم حذاءٍ رياضيٍّ لها، وضعَه لها مصمّم مكسيكي أميركي، مستوحى من شكل تلك الصنادل. وقد حضرت ممثلةٌ عن “أديداس” احتفاليةً موسيقيةً وراقصةً في البلدة، قرأت فيه رسالة اعتذارٍ، مشيرة إلى “انزعاجٍ” أحدثه التصميم. وكانت رئيسة المكسيك، كلاوديا شينباوم، قد انتقدَت الشركة العتيدة، “لتسويقها نسخةً مقلّدةً من تصاميم تقليدية من دون موافقةٍ صريحةٍ من أصحابها الأصليين”. وتُخبرنا وكالة الأنباء الألمانية، في ذيل الخبر، أن المكسيك تتّخذ، منذ سنواتٍ، إجراءاتٍ ضد الشركات التي تستخدم التصاميم التقليدية لشعوب أميركا اللاتينية من دون إذنٍ أو شراكةٍ مع المجتمعات الأصلية.
القصّة كبيرة، إذن، سيّما وأن “أديداس” نجت، في اعتذارِها، من دفع تعويضٍ “بتهمة الاستحواذ الثقافي”، كانت حكومة المكسيك تنوي المطالبة به. وأقرّ المصمّم (اسمُه ويلي تشافاريا) بفعلته، في بيانٍ أخبرَت عنه الأحد الماضي وكالة الأنباء الفرنسية التي نقلت عن حرفيين في البلدة قولهم إن صناعتَهم تلك الصنادل تتطلّب “مهارةً عاليةً متوارثةً عبر الأجيال، وعملاً شاقّاً”.
بداهةً، ومن دون تأخّر، تأخذُنا الواقعة المكسيكية هذه إلى سفالة إسرائيل التي لا وجود للاعتذار في قاموسها، وهي التي توازي جرائم الحرب التي تقترفُها بجرائم “استحواذٍ ثقافيٍّ” معلن، من دون أي شعورٍ بحرجٍ أو خجل، عندما، أمثلةً لا غير، تلبس مضيفاتٌ إسرائيلياتٌ على متن خطوط شركة العال الثوب الفلسطيني في المناسبات على أنه ثوبٌ إسرائيلي. وعلى ما ذكر باحثون، فإن زوجة وزير الحرب السابق، موشيه دايان، كانت تلبسه في المناسبات الإسرائيلية على أنه ثوبٌ يهودي الأصل والتاريخ. وعلى الرغم من إشهار فضيحتهم، ما زال أصحاب مطاعم إسرائيلية في الولايات المتحدة والغرب يقدّمون الحمص والفلافل “أطباق طعام إسرائيلي”، وذلك مطعم “جيرو” في لندن، وفروعُه، لا يستحي من نسبتهما إلى إسرائيل التي “صنَع” المهاجرون إليها “مطبخاً إسرائيلياً” من أطعمةٍ وأكلاتٍ وأطباقٍ فلسطينية وعربية بلا حصر، (الكبّة العراقية مثلا). ولئن ساهمت طاهياتٌ قديراتٌ، وكذا طهاةٌ خبيرون ومؤرّخون وباحثون، في التعريف الموثّق والمتقن في الغرب، بالمطبخ الفلسطيني، إلا أن ماكينات الكذب والدعاية في دولة الاحتلال ولوبيّاتها في الخارج لا تتوقّف عن التدليس، وعرض أكلاتٍ فلسطينيةٍ بوصفها إسرائيلية، بل يحدُث أن يقدّم مسؤولون فيها لضيوفٍ وزوّارٍ رسميين، في بيوتهم وفي استقبالاتٍ بروتوكولية، مأكولاتٍ فلسطينية، والزعم إنها موروثٌ يهودي. بل تُصدر وزارة السياحة الإسرائيلية مطبوعاتٍ ونشرياتٍ وتوزّعها في العالم، الكذب فيها منكشفٌ، بشأن أكلاتٍ شعبيةٍ فلسطينيةٍ وعربية. وفيما توثّق منظمة يونسكو التطريز المستخدم في الأزياء الشعبية الفلسطينية تراثاً فلسطينياً، تواصل إسرائيل، بسفالتها المعلومة، ترويجَه تراثاً إسرائيلياً. وتضمّ في متحفها “الوطني” مسروقاتٍ من موروثات وفلكلورياتٍ وألبسةٍ فلسطينية وتنسبها إلى هذا التراث المزعوم.
لن يحظى الفلسطينيون بمثل الاعتذار الذي حظي به أهالي البلدة المكسيكية الصغرى (لا داعي لتكرار اسمِها) من شركة أديداس، لأن دولةً قامت على “طبخ” تاريخ لها، وتأويل نقوشٍ ومنقولاتٍ وكتاباتٍ قديمة، من قبيل اعتبار كرات عدس مقلية، اسمُها “أشيشم”، واردة في التوراة، أحد الأشكال المبكّرة للفلافل في المنطقة (!)، وعلى تأليف تراثٍ مختلقٍ لناسها، لن تتحلّى بالمناقبيّة التي اتّصفت بها الشركة العالمية (سجّلت إيراداتُها 23.68 مليار يورو في العام 2024)، عندما قدّرت أن “استحواذَها” على تصميمٍ يخصّ ناساً لهم ثقافتهم الخاصّة في صناعتهم صنادلَهم يخصِم من صورتِها… ولكن، لا صورة لإسرائيل غير أنها مصنوعةٌ، ومطبوعةٌ على السرقة والانتحال، وعلى جرائم الإبادة والمحو من قبلُ ومن بعد.