تحمل جثماناً في مدينة غزة، 9 يوليو 2025 (عمر القطّاع/ فرانس برس)
كشف تحقيق صحافي مشترك أنّ بيانات سرّية لجيش الاحتلال الإسرائيلي تشير إلى أنّ معدل وفيات المدنيين في قطاع غزة بلغ 83% من إجمالي عدد الشهداء منذ بدء حرب الإبادة، التي تشنّها إسرائيل على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبحسب التحقيق الذي نشرت نتائجه صحيفة ذا غارديان البريطانية، اليوم الجمعة، بلغ عدد الشهداء من المقاتلين 8900 مقاتل من بين 53 ألف شهيد سقطوا على يد قوات الاحتلال منذ بدء الحرب، حتّى مايو/ أيار الماضي. ما يعني أنّ خمسة من كل ستة شهداء هم من المدنيين، ما يُعتبر “معدل قتل مروع، نادراً ما شهدناه في الحروب خلال العقود الأخيرة”.
ووفقاً للتحقيق الذي أجرته “ذا غارديان” ومجلة +972 الإسرائيلية وصحيفة “لوكال كول” العبرية، أدرج مسؤولوا الاستخبارات الإسرائيلية حتّى مايو الماضي؛ أي بعد 19 شهراً من بدء الحرب حينها، 8900 مقاتل معلن عنهم من حركتَي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني كشهداء أو يحتمل أنهم في عداد الشهداء. ووفقاً لإحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بلغ عدد الشهداء من المدنيين والمقاتلين حتى ذلك الوقت 53 ألف شهيد، ما يعني أنّ 83% من الشهداء هم من المدنيين بحسب قاعدة البيانات الإسرائيلية.
وتُعتبر هذه النسبة العالية من القتلى المدنيين إلى المقاتلين مرتفعة للغاية في الحروب الحديثة، حتى بالمقارنة مع الصراعات المعروفة بالقتل العشوائي بما في ذلك الحربان السورية والسودانية. ونقلت “ذا غارديان” عن تيريز بيترسون، من برنامج أوبسالا لبيانات الصراعات (UCDP) الذي يتتبع الخسائر المدنية حول العالم قولها إنّ “نسبة المدنيين بين القتلى مرتفعة على نحوٍ غير معتاد، لا سيّما أن الحرب مستمرة منذ فترة طويلة”.
إبادة جماعية
وتشير بيترسون إلى أن النزاعات العالمية التي تتبعتها UCDP منذ عام 1989، شكّل المدنيون نسبة أكبر من القتلى فقط في في سربرنيتسا بالبوسنة والهرسك، وفي الإبادة الجماعية في رواندا، وخلال الحصار الروسي لمدينة ماريوبول الأوكرانية عام 2022. ويقول العديد من الباحثين والمحامين ونشطاء حقوق الإنسان في مجال الإبادة الجماعية، بمن فيهم أكاديميون وناشطون إسرائيليون، إنّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، مشيرين إلى القتل الجماعي للمدنيين والتجويع المفروض.
لم يُشكك جيش الاحتلال الإسرائيلي في وجود قاعدة البيانات أو في البيانات المتعلقة بالقتلى في غزة، عندما تواصلت معه “لوكال كول” ومجلة +972، ولكن متحدثاً باسم الجيش قال لصحيفة ذا غارديان إنهم قرّروا “إعادة صياغة” ردهم عندما تواصلت معهم الصحيفة، ولم يتطرق الرد الموجز الذي أرسله الجيش إلى الأسئلة المتعلقة بقاعدة بيانات الاستخبارات العسكرية. وادعى الرد الإسرائيلي أنّ “الأرقام الواردة في التحقيق غير صحيحة” دون تحديد البيانات التي ينفي الجيش الإسرائيلي صحّتها، ولم يُجب المتحدث باسم الجيش عن سبب تقديم الجيش إجابات مختلفة على أسئلة حول مجموعة بيانات واحدة.
وتضم قاعدة البيانات الإسرائيلية أسماء 47,653 فلسطينياً تعتبرهم أعضاء في الجناحين العسكريين لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. وتستند هذه الأسماء إلى وثائق داخلية، على ما يبدو، جرى الاستيلاء عليها في غزة، لم تطّلع عليها صحيفة ذا غارديان أو تتحقق منها. وقالت مصادر استخباراتية متعدّدة مطلعة إنّ جيش الاحتلال يعتبر هذه البيانات المصدر الوحيد المعتمد لتحديد الضحايا من بين المقاتلين. ويعتبر جيش الاحتلال، بحسب الصحيفة، أن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة مصدر موثوق للبيانات المتعلقة بأعداد وأسماء القتلى، رغم رفض المسؤولين الإسرائيليين إحصائيات الوزارة والتشكيك بها.
ويقدّر السياسيون والجنرالات الإسرائيليون عدد الشهداء من المقاتلين بـ20 ألفاً، ويزعمون أنّ نسبة المدنيين إلى المقاتلين منخفضة. وتشير الصحيفة إلى أن القيادة الجنوبية الإسرائيلية سمحت للجنود بالإبلاغ عن الضحايا في غزة كقتلى مسلحين دون تحديد هويتهم أو التحقق من هويتهم. وقال مصدر استخباراتي رافق القوات على الأرض: “يُوصف الأشخاص بإرهابيين بعد وفاتهم”، مؤكداً أنه لو اعتمد على كلام ضباط الجيش في إحصاء عدد القتلى من حماس لوصلوا إلى “200% من عناصر حماس في المنطقة”، وفق زعمه.
وقال إسحاق بريك، الجنرال المتقاعد، إنّ الجنود الإسرائيليين يدركون أنّ السياسيين يبالغون في تقدير عدد قتلى حماس. وأضاف بريك، وهو مستشار سابق لبنيامين نتنياهو في بداية الحرب وهو الآن من أشد منتقديه، لصحيفة ذا غارديان: “لا علاقة إطلاقاً بين الأرقام المعلنة وبين ما يحدث بالفعل. إنها مجرد خدعة كبيرة”. كان بريك قائداً للكليات العسكرية الإسرائيلية، وقال إنه ظل على اتصال بالضباط، وقال إنّ “جنوداً من وحدة تحديد هوية الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة” أخبروه بأنّ “معظمهم” مدنيون.
إسرائيل تعتبر “كل شخص في غزة من حماس”
وعلى الرغم من مرور نحو 22 شهراً على الحرب ودمار جزء كبير من قطاع غزة وتحوله لركام واستشهاد عشرات الآلاف من الغزيين، إلّا أن قاعدة البيانات السرية الإسرائيلية تُدرج أنّ ما يقرب من 40 ألف مقاتل ما زالوا على قيد الحياة. وتنقل الصحيفة البريطانية عن المحلّل الفلسطيني محمد شحادة تأكيده أنّ المسؤولين الإسرائيليين “يبالغون كثيراً في تقدير عدد القتلى في تصريحاتهم العلنية”، ويشير إلى مصادر من حركتَي حماس والجهاد الإسلامي أخبرته بأن عدد الشهداء من العسكريين في الحركتَين بلغ 6500 مقاتل بحلول ديسمبر/ كانون الأول 2024، وأضاف: “تقوم إسرائيل بتعريف كل شخص في غزة بأنه من حماس”.
وتشير الصحيفة إلى أنّ نسبة الضحايا المدنيين بين القتلى ربما ارتفعت منذ مايو وحتّى الآن بعد إيقاف الاحتلال عمل الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، التي قدمت المساعدات الغذائية والطبية للفلسطينيين منذ بدء الحرب، وما نتج عن ذلك من انتشار المجاعة وقتل القوات الإسرائيلية مئات الأشخاص الذين كانوا يحاولون الحصول على الغذاء من مراكز التوزيع في المناطق العسكرية المحظورة.
وقالت ماري كالدور، الأستاذة الفخرية في كلية لندن للاقتصاد ومديرة برنامج أبحاث النزاعات، ومؤلفة كتاب “حروب جديدة”، وهو كتاب مؤثر يتناول الحروب في حقبة ما بعد الحرب الباردة، إنّ “حجم القتلى يعود جزئياً إلى طبيعة الصراع، إذ تقاتل إسرائيل حركة حماس في مدن مكتظة بالسكان، ووضعت قواعد اشتباك تسمح لقواتها بقتل أعداد كبيرة من المدنيين في ضربات جوية”، وأضافت كالدور: “في غزة، نتحدث عن حملة اغتيالات مستهدفة، في الواقع، وليس عن معارك، وتُنفذ دون أي اكتراث بالمدنيين”.
وأشارت كالدور إلى أن نسبة المدنيين بين القتلى في غزة تُقارن أكثر بالحروب الأخيرة في السودان واليمن وأوغندا وسورية، حيث وُجّه معظم العنف ضد المدنيين، وأضافت: “ربما ينطبق الأمر نفسه على إسرائيل، وهذا نموذجٌ للحرب في غزة يدور حول السيطرة على السكان والأرض. ربما كان الهدف دائماً هو التهجير القسري”.
وتنقل “ذا غارديان” عن نيتا كروفورد، أستاذة العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد والمؤسسة المشاركة لمشروع “تكاليف الحرب”، قولها إنّ التكتيكات الإسرائيلية تُمثل تخلياً “مقلقاً” للجيوش عن أساليب قتالها، مضيفة: “يقولون إنهم يستخدمون نفس أنواع الإجراءات، لتقليل الخسائر المدنية والتخفيف منها، التي تتبعها دول مثل الولايات المتحدة. لكن إذا نظرنا إلى معدلات الخسائر هذه، وممارساتهم في القصف وتدمير البنية التحتية المدنية، يتضح أنهم لا يفعلون ذلك”.