
وأدت المجاعة 60 روحاً في القاشر خلال الأسبوع الماضي (Getty)
وحده الموت يمكن أن يحرر العربي من كل هذا البؤس، حرب ومرض ومَسْغَبة، فتن بعضها فوق بعض، تتقاتل أيها يفتك أولاً بسودانيين محاصرين في مدينة الفاشر وفيها 1.5 مليون روح، بينهم 800 ألف نازح وقبائل عربية وأفريقية يمتزجون معاً، ويقف دونهم والطعام عرب وأفارقة آخرون يمنعونهم الشبع منذ أكثر من عام، متجاهلين طلبات برنامج الأغذية العالمي تمكين قوافله من المرور بأمان، بعدما وافقت الحكومة على وقف لإطلاق النار، فكان أن تعامت عنه ما تسمى بـ”قوات الدعم السريع”، وليس لكل امرئ من اسمه نصيب، فهؤلاء لا هم بقوات ولا بدعم، وإنما مليشيا خراب عاجل وعاصف بكل ما تطأه عجلات مصفحاتهم المجلوبة من أموال شعب ينهبون موارده حتى صار عظماً على لحم.
إنه الجوع الشديد بئس الضجيع، يغشى صاحبه، يطلبه حثيثاً ليلاً أو نهاراً، فما كان من علاج واه له، سوى أن تقدم أمهات “فاشر السلطان” لبطون أطفالهن المخمصة، “الأمباز” وهو علف الحيوانات المستخرج من مسحوق بقايا الفول السوداني والسمسم بعد عصر البذور لاستخراج الزيت، قبل طحن تلك المخلفات، ومنها تصنع عجينة صارت هي الوجبة الوحيدة المتاحة لآلاف يغدون خماصاً ويؤوبون بأحشاء تضمرُ أكثر يوماً وراء يوم، جراء جوع مزمن يستنزف ما تبقى من بروتين في الجسم، بعد استنفاد الدهون، مما يؤثر في وظائف الأعضاء الحيوية، ويؤدي لهزال ينتهي إلى “الموت الأغبر”، كما تصف العرب من يقضي عليه الجوع القاسي المغبر لكل شيء في عينيه، كأنه ريح عاصفة تلفح الوجوه بعد طي البطون، في حاضرة سلاطين الفور وعاصمة إقليم شمال دارفور، التي ظلت 20 عاماً، تصنع كسوة الكعبة، وترسلها مع نفقة مالية وأطنان المأكولات لتوزع على الحجيج.
تلك أمة قد خلت، واليوم أحفاد السلطان علي دينار، يكابدون في المدينة المنسوبة إلى لقبه الملكي، واحدة من أعتى الأزمات الإنسانية التي عرفتها البلاد منذ اندلاع الحرب، حتى إن المطابخ الخيرية المعروفة محلياً بـ”التكايا” توقفت الشهر الماضي، والأسواق مغلقة لا تجد بضائع تشاغل رفوف متاجرها الخاوية على عروشها، بينما تنهب المليشيا قوافل الإغاثة (بمن وبماذا يذكرك هذا؟)، وتروع كل من يحاول إدخال البضائع أو الأدوية، حتى بلغت القلوب الحناجر، بعدما زاغت الأبصار من جوع قتل أكثر من 60 شخصاً في أسبوع واحد فقط، حسبما نقل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، مقدماً “قلقه” للهائمين على وجوههم بين المستشفيات ومراكز الإيواء بحثاً عما يسد الرمق، فلا يجدون حتى الفتات ومن أين قد يأتي؟ والمدينة مسورة بالرصاص، والعرب مشغولون، بماذا؟ لا أحد يعرف، فإن كانوا عاجزين عن تحدي إسرائيل ونجدة أهل غزة في مجاعتهم، فهل كذلك لا يمكن لكل تلك الجيوش “الجرارة” منع مليشيا من تجويع وحصار أبرياء، وفرض منطقة آمنة أو محايدة Neutral zone؟، تكون نموذجاً للفصل بين المتحاربين، ووقف الأعمال العدائية في إقليم دارفور، ووأد مخططات الحكومة الموازية التي أعلن عن تشكيلها قائد المليشيا حميدتي، في محاولة جديدة لتقسيم البلاد.
ومالنا والحرب؟ سيبادرك ناطقوهم أو مليشياتهم الإلكترونية والكل سواء، أول ما يشمون رائحة “الكريهة”، تحديداً إن كانت للدفاع عن أخ أو شقيق أو وقف عدوان متجبر أو باغ، أي لهدف يحمي أمنهم القومي ويخلق لهم سيادة ونفوذاً وكلمة في الإقليم المضطرب، جراء محاولة تشكيله بالنار والدم، ومع ذلك قل لهم يمكنكم على الأقل توفير 600 مليون دولار يطلبها برنامج الغذاء العالمي ليغطي عملياته في السودان خلال الأشهر الستة المقبلة، أو حتى ترك شعوب 22 دولة عربية تطلق حملات تبرع برعايتكم، من أجل نجدة أشقاء، أياديهم بيضاء، معزولون في مسغبتهم، سبق وأن قدموا للجميع “سبتاً” وعند الحاجة لم يجدوا “أحداً” كما يقول المثل الشعبي بتصرف، وأبناء الأصول لا ينسون المعروف كما يغيثون الملهوف، ولهم في فيتنام أسوة حسنة بعدما قدمت قبل أيام، دعماً لكوبا التي وقفت إلى جوارها وقت الحرب الأميركية عليها قبل أكثر من خمسين عاماً، فأرسلت لها الأطباء والغذاء والسلاح والمستشارين العسكريين، واليوم تمرّ هافانا بأزمة اقتصادية واجتماعية حادة قلصت قدرات البلاد على استيراد الغذاء والدواء، فكان أن جمعت هانوي في 48 ساعة 13.5 مليون دولار بمشاركة 1.76 مليون متبرع رداً لجميل صنع في أهله.
وشعوبنا من أهله، بل هم خاصته كما تبدت معادنهم في مواقف عدة، لكن الكلام لا يغني ولا يسمن من جوع، والتضامن “الحاف” لا يؤكل “عيش” أي الخبز، كما يسميه المصريون، وكل دقيقة تمر تزهق فيها نفس عربية في مجاعتي غزة والفاشر، وهو ما يجب أن يتوقف فوراً، وقد كان مما أثار دهشة الصحافي المصري لبناني الأصل أنطون باشا الجميِّل رئيس تحرير صحيفة الأهرام قبل أكثر من مائة عام في كتيبه المعنون بـ”الجوع والمجاعات” لدى ذكر مجاعة سورية ولبنان عام 1916، أنه “لا يخطر لنا ببال أن المجاعة ممكنة في عصر البخار والكهرباء وفي عهد ازدهار التضامن وعلم الاقتصاد”، وله الحق في ما ذهب إليه، بافتراض حيازة الإنسان مزيداً من التحضر بمرور الزمن، على النقيض مما نعايشه في عالم اليوم، إن كان على يد إسرائيل أو مليشيا مارقة لا يهمهما كما من وراءهما، اتفاقيات جنيف 1949، والبروتوكول الإضافي لعام 1977، الذي حظر صراحة تجويع المدنيين واتخاذه أسلوب حرب، وتلته العديد من الأطر القانونية الداعمة، مثل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الصادر عام 1998، وفيه تنص المادة 8(2)(ب)(25) على أن “تجويع المدنيين عمداً كأسلوب حرب بحرمانهم من الأشياء الضرورية لبقائهم، بما في ذلك إعاقة إمدادات الإغاثة يُعد جريمة حرب على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف”، التي يبدو أن الضعفاء لم يعد أمامهم سوى أن يبللوها ويشربوا ماءها، ربما يوقفون جوعهم ولو قليلاً!
