الرئيسية

العنف… غريزة أم سلوك مكتسب؟



يرى الفيلسوف الإنكليزي “هوبز” أن العنف يُعدّ عنصرًا أساسيًا في العلاقات الاجتماعية، لأن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو حب البقاء والحفاظ على الذات. ومن ثمّ، فإن كل إنسان، بحكم أنانيته الطبيعية، يُمثّل خطرًا على كل إنسان آخر، حتى قال: “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”. ففي الحالة الطبيعية السابقة على وجود الدولة، يكون “الجميع في حرب ضد الجميع”.

لذا، يصبح من الضروري تأسيس دولة قاهرة تُوقف هذه الحرب، وتضمن الحياة واستمرارية المجتمع، من خلال كبح جماح النزعة الحيوانية في الإنسان، وتطويق غريزته العنيفة والشريرة التي قد تظهر كلما شعر بالتهديد. فالحيوان يصبح خطيرًا عندما يجوع، أما الإنسان، فيصبح خطيرًا عندما يجوع ويشبع؛ ففي الحالة الأولى يكون حيوانًا، وفي الثانية يكون إنسانًا شريرًا.

فهل ما يحدث من عنفٍ مفرط لدى الإنسان هو غريزة طبيعية وُلد بها منذ لحظة دخوله الحياة، أم أنه سلوك مكتسب؟

هذا السؤال يأخذنا نحو جوهر المسألة: لماذا يرتكب الإنسان العنف؟

هل أصبحت السيكوباثية، التي تمثل ذروة التطرف في ارتكاب الجرائم، عادة ممتعة لدى بعض البشر؟ خصوصًا في ظل ما نشاهده عبر منصات التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية من مشاهد مروعة لحالات قتل بطرق بشعة؟

ولا يمكن إغفال مرحلة الطفولة، التي تُعدّ اللاعب الأساسي في تشكيل شخصية الإنسان وسلوكه المستقبلي، إلى جانب الحروب التي شكّلت جزءًا من العنف الغريزي في الإنسان، قبل أن تتم محاولة ترويضه عبر العوامل الاجتماعية والسلوكية المتغيرة.

وإلا، ما الذي يجعل شيخًا رقيق المشاعر يتحوّل إلى وحش كاسر؟ فقط لأنه واجه شبانًا وشابات قيل له من شيخٍ آخر إنهم “علمانيون” ويجوز عقابهم؟

هذا ما قرأته يومًا في إحدى المدونات على مواقع التواصل الاجتماعي.

فهل هناك فئة من البشر تحاول إيذاء من تختلف معهم في الطائفة، أو العرق، أو الدين؟

من خلال التفسير النفسي لعالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، يرى أنَّ الإنسان يمتلك غريزتين أساسيتين: غريزة الحياة وغريزة الموت. وهذه الأخيرة تتجلّى أحيانًا في نزعة تدميرية موجّهة نحو الذات أو الآخرين.

وقد تظهر غريزة الموت في سلوكيات مدمّرة للذات، مثل إيذاء النفس، أو تعاطي المخدرات، أو في العدوانية تجاه الآخرين. ويعتقد فرويد أن هذه الغريزة موجودة لدى الجميع، لكنها غالبًا ما تكون مكبوتة أو موجهة بشكل غير مباشر نحو الخارج.

كان فرويد يرى أن الإنسان ليس هو “ذلك الكائن الطيّب السمح، الظمآن إلى الحب، الذي لا يهاجم إلا دفاعًا عن نفسه”؛ فهذه الصورة الجميلة عن الإنسان لا توجد إلا في الكتب، والأشعار، والمُثل، والأحلام.

أما في الحقيقة، فالإنسان كائن يختزن قدرًا كبيرًا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية، إذ “كل إنسان ميّال إلى استغلال الآخر، والتفوّق عليه، والاعتداء عليه، لإشباع حاجاته العضوية والنفسية. فالإنسان مدفوع غريزيًا إلى إشباع حاجته من العدوان، كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس”.

فهل يكفي البشر الحدّ من الانتشار النووي وأسلحة الدمار الشامل؟

هل تكفي العهود والمواثيق الدولية؟

هل تكفي البرامج التي يقترحها الإيكولوجيون؟

هل يكفي الوعظ والإرشاد والكلام البليغ؟

هل يكفي اللجوء إلى الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع؟

إنَّ لأزمة الحياة بُعدًا إنسانيًا-سيكولوجيًا، فالإنسان في أعماقه كائن معقّد، وليس العقل وحده من يتحكم في سلوكه، إذ كثيرًا ما تختبئ خلف تعبيراته الظاهرة دوافع لا شعورية تتحكّم بمصيره ومصير من حوله.

وليس الرأي وحده ما يُعبّر عن حقيقة الإنسان، بل يعبّر عنها طبعُه، ذلك الطبع الذي يمكن كشفه من خلال الملاحظة الدقيقة لكل إشارة أو تصرّف يصدر عنه.

في الحقيقة، فالإنسان كائن يختزن قدرًا كبيرًا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية، مدفوع غريزيًا إلى إشباع حاجته من العدوان كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس

ويذكر لنا عالم النفس الفرنسي إيريك فروم في مقالته “التخطيط الإنساني” دراسة أجراها مع زملائه من المحللين النفسيين في ألمانيا عام 1932، تناولت كيفية استجابة العمال والموظفين لوصول هتلر إلى السلطة. فمن حيث الآراء، كانوا بنسبة تقارب 100% ضد النازية، إلا أنَّ المحللين كانوا مقتنعين بأن الاستجابة الحقيقية تعتمد على القوة النسبية للقوى الاستبدادية في مواجهة القوى المناهضة للاستبداد، داخل البنية النفسية والطبعية للأفراد.

لذلك نلاحظ أن بعض الأفراد يُظهرون سلوكًا عنيفًا نتيجة ما تعلموه من بيئتهم، سواء على مستوى الأسرة أو المجتمع. كما أن بعض المجتمعات تنظر إلى العنف باعتباره وسيلة للسطوة والسيطرة، أو تراه فضيلةً ونوعًا من الشجاعة.

وهناك فئة أخرى يتولد لديها العنف نتيجة الفراغ الوجودي، فيلجؤون إلى العنف كوسيلة لسدّ هذا الفراغ، بحثًا عن الشعور بأي شيء.

حتى لدى الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية مثل السيكوباثية، غالبًا ما يكون العنف لديهم مصحوبًا بلذّة ومتعة ناتجة عن أفعالهم العنيفة.

يرى فلاسفة الحداثة الأوائل وأنصار نظرية التقدّم – أمثال هيغل وماركس وتلامذتهم – أن الواقع الإنساني يتكوّن من مكوّنات أساسية، أهمها جدلية النفي والصراع، التي تُعد المحرّك الرئيسي لهذا الواقع. فهذه الجدلية، بحسب رؤيتهم، هي التي تدفع الواقع القائم حتمًا نحو تجاوز ذاته، مُنتجًا كيانًا جديدًا نوعيًا.

إن الصراع والعنف، في هذه النظرة الفلسفية، هما محرّكا الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفرد. فكل شيء في حالة صيرورة وتغيّر مستمر، والعنف والصراع هما الثابتان الوحيدان داخل حركة تاريخية دائمة لا تعرف السكون.

ويذهب العديد من النظريات إلى أن العنف والعدوانية ينبعان من الطبيعة الإنسانية ذاتها، ولذلك يُعتبر التحليل النفسي من أهم المدارس التي سعت إلى فهم العنف، من خلال إرجاعه إلى جذور راسخة في التكوين النفسي والبيولوجي للإنسان.

ومع كل هذه الصراعات، يبقى السؤال مطروحًا: كيف يمكن للإنسان المعاصر أن يجد وجوده وسط هذا العنف المرتبط ارتباطًا وثيقًا بكينونته؟

وكيف له أن يُواجه هذا العنف من خلال دراسة تحليلية لذاته، ساعيًا إلى كبح جماح الوحش الكامن في داخله، ليتمكن من العيش بسلام؟