الرئيسية

العرب… عود على بدء



كم قيل لنا في السنوات العشرين الأخيرة إنّ الولايات المتحدة الأميركية ومن ورائها الدول الغربية ستخرج من منطقة الشرق الأوسط، أو بكلام أكثر دقة، من الوطن العربي. وكان هذا معارضاً لكتابات كثيرة، من أهمها نظرية مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر “الاحتواء المزدوج”. ونظرية المفكر السياسي الأميركي صامويل هنتنغتون، وخصوصاً كتابه الموسوم “صراع الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي”.

وكان يقف على نقيض هذين المؤلفين الكاتب والمفكر والمؤثر والمبدع ناعوم شومسكي الذي لا يزال منذ عام 1957 وحتى الآن يهاجم الإمبريالية الأميركية والاحتلال الإسرائيلي وسوء معاملته للشعب الفلسطيني، معتبراً أنّ التفرقة العنصرية التي تمارسها إسرائيل أسوأ من الأبارتهايد في دولة جنوب أفريقيا. ولهذا المؤلف أكثر من 150 كتاباً يوضح فيها أفكاره الكثيرة في مجال اللغات وأسلوب استخدامها من قبل السياسيين، وفي مجال السياسة، متبنياً منهج اليسار الأميركي الناقد لمغامراتها العسكرية الظالمة في مناطق مختلفة من العالم. وهو لا يتوقع خروج أميركا من الوطن العربي، لكنه يدعو إلى ذلك.

وتأتي هذه المقدمة المثيرة لكي تشير إلى تفاوت النظريات السياسية ونظرتها إلى منطقتنا العربية لكي تمهد الطريق لشرح أهداف بنيامين نتنياهو الذي يعرض خرائط جديدة للشرق الأوسط ويزيل فلسطين منها، ويقسم أقطاراً عربية. وقد خرج علينا أخيراً بتنبؤاته النوسترادامية بأن إسرائيل العظمى قادمة في الوقت الذي تتعمق فيه أبواقه الدعائية ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه يريد إحياء الدولة العثمانية، ويشتم إيران لأنها كانت تستولي على أربع دول عربية حالمة بإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية.

ونحن نعلم أن كورش هوا مؤسس الإمبراطورية الفارسية قد دافع عن اليهود وقدم لهم الحماية والحرية من أسر البابليين. ورغم هذا التحالف التاريخي القديم، فإن نتنياهو البولندي ليس له علاقة بهذا التاريخ، وهو لا يمتّ بصلة إلى اليهود الذين أسسوا المملكة اليهودية لمدة ثمانين عاماً قبل أن يحطمها نبوخذ نصّر ملك البابليين.

وقد يدعي نتنياهو ويتبجح أن فكرة إسرائيل العظمى هي من إنتاجه، ولكن المخطط لها في رأيي قد بدأ منذ الانقلاب على نظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران عام 1979 إن لم يكن قبل ذلك بسنوات. وبعد ذلك الانقلاب أو الثورة بأشهر برز نظام جديد في إيران بقيادة الإمام الخميني الذي عاد إلى طهران من باريس، حيث تسكن الآن المعارضة الرئيسية لنظام الملالي بقيادة مريم رجوي زوجة الراحل مسعود رجوي.

وبسقوط الشاه، ومن ثم وفاته، تعزز موقف الثورة الجديدة التي تخلصت من القادة الذين لم ينخرطوا تحت لواء الملالي الكبار مثل قطب زاده وزير الخارجية الذي أعدم، وأبي الحسن بني صدر الذي فرّ بأعجوبة إلى الخارج، وغيرهما كثر. وما كادت تستقر الأمور للنظام الإسلامي الجديد، حتى بدأت الحرب بين العراق وإيران بسبب شكاوي النظام العراقي من محاولات إيران للاعتداء على حدودها. واستمرت تلك الحرب الطاحنة حتى عام 1988 (8 سنوات).

ووجد العراق نفسه خاوي الوفاض، وأدى هذا الوضع إلى تصادم العراق مع الكويت، ومن ثم احتلالها، وانقسم الوطن العربي على أثرها. وأخيراً تدخل الجيش الأميركي، وقاد حلفاءه لطرد القوات العراقية من الكويت في شهر يناير/ كانون الثاني 1991. وحوصر العراق، وصدرت ضده عشرات القرارات الملزمة من طريق مجلس الأمن وبموجب الفصل السابع من الأمم المتحدة. وقد هيأ هذا الوضع لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب ومن طريق وزير خارجيته المخضرم جيمس بيكر الثالث بأن يهيئ المسرح من أجل حل الأزمة الفلسطينية من طريق التفاوض الثنائي المباشر والتفاوض متعدد الأطراف.

وقسمت المفاوضات حول فلسطين إلى مرحلتين: مرحلة إعداد الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، ومرحلة حل المشاكل الأساسية، مثل القدس واللاجئين وترسيم الحدود والمستوطنات والمياه والأمن. وكان من المفروض أن تنتهي المرحلة الثانية بتأسيس دولة فلسطين تعيش بأمن وأمان مع جارتها إسرائيل خلال خمس سنوات. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.

وتشكلت السلطة الفلسطينية وعاد الرئيس ياسر عرفات إلى رام الله حيث شكل السلطة الوطنية، وبدأ العمل على تنظيم أعمالها وإعادة البناء للبنى التحتية وبعض البنى الفوقية. ولكن بعد حوالى سنة من توقيع أوسلو في القاهرة اغتيل إسحاق رابين وتولى شيمون بيريز الرئاسة من بعده لفترة قليلة حتى جرت الانتخابات العامة للكنيست عام 1996، وفاز فيها بنيامين نتنياهو الذي أصبح رئيساً للوزراء.

ومنذ ذلك الوقت شَكَّل نتنياهو، سواء أكان في الحكومة، أم متزعماً للمعارضة، العثرة الكبرى في طريق أي تقدم. وقد جرت محاولات مهمة من قبل إيهود باراك وأولمرت ولكنها فشلت. وحكم نفتالي بينيت لفترة قصيرة. ورشح زعيم المعارضين، لكنه فشل.

أما اللافت للنظر، فهو آرييل شارون الذي اقتحم الأقصى قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، وتمتع لدى الإسرائيليين بسمعة عسكرية عالية، وخرج من قطاع غزة بعد أن هدم المستوطنات التي فيها. ولكن كل هؤلاء لم يكونوا، جماعة أو فرادى، قادرين على إضعاف نتنياهو، وقتل فرص نجاحه في انتخابات قادمة. ورغم ظروف المحاكمة والاتهامات الموجهة إليه بالفساد وسعيه المستمر لإضعاف القضاء وأخذ صلاحيات من السلطة القضائية ومنحها للسلطة التنفيذية، وأهماله لموضوع تحرير أسرى معركة السابع من أكتوبر 2023، إلا أنه ما زال صامداً حتى الآن. وتحدى نتنياهو خلال مسيرته السياسية رؤساء أميركيين.

وكاد جيمس بيكر أن يعتبره خلال مفاوضات واشنطن شخصاً غير مرغوب فيه لانتقاده السياسة الخارجية الأميركية خارج حدود اللباقة والأدب. ورغم كل ما صنعه الرؤساء الأميركيون خدمة لأهدافه السياسية، إلا أنه استطاع أن ينقذ من كل المآزق. يا ترى من وراءه ومن يدعمه؟ وفي الثلاثين عاماً الماضية حصل الربيع العربي الذي أدى إلى تقوية كل الطامعين في العرب وخيراتهم وموقعهم وسوقهم وأموالهم. وانهارت دول كبيرة، ونجا بعضها من الاعتداء والتقسيم والفوضى.

وخسرنا العراق لفترة وسورية والسودان والصومال وليبيا. ولا تزال هذه الدول مهددة بالتقسيم. وأخشى على الجزائر المليئة بالثروات وغير المستثمرة بالشكل الأنجع. من صنع كل هذا الخراب ودمر كل الفرص العظيمة لتحقيق الأمن الغذائي والأمن المائي والأمن العسكري والمشروعات الكبرى المشتركة؟

وانتقل التفكير لربطنا بمشاريع إقليمية دولية كبرى قد تفيدنا، ولكنها ليست أساساً معمولة لصالحنا. فهنالك مشاريع طرق وسكك حديد لم تُبنَ. وهنالك مشروعات أنابيب لنقل المياه والنفط والغاز بقيت حبراً على ورق، وهناك محطات لوجستية خدمة لنظم التزويد المحلي والإقليمي والدولي لا تزال تنتظر من يعرف ماهيتها وشكلها ومصدر تمويلها والمستفيدين منها. هذه البعثرة في النظام العربي أو ما تبقى منه يجب أن تنتهي.

والمطلوب لكي نعيد الروح للعالم العربي ونقنعه بأن الحياة أمامه قابلة لأن تحيا بكرامة لأننا لا نزال نملك حوالى 30% على الأقل من أرصدة العالم من الطاقة الأحفورية، ونحن نشكل مساحة قدرها حوالى 14 مليون كيلومتر مربع رغم سرقة معظم مياهنا في أنهر النيل ودجلة والفرات والأردن بفروعه والكثير من مياهها الجوفية. ويتذاكى بعضنا على بعض فيها، ونحن الذين نشكل غالبية الدول المطلة على باب المندب والبحر الأحمر والمضائق تيران وهرمز وبحر العرب والخليج وقناة السويس ومضيق جبل طارق.

ونحن الذين نطل على المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. ونحن من أكثر مناطق العالم إنجاباً لطاقات خلاقة أمام هذه الثراء في الموقع والمال والثروات، لماذا لا يزال عندنا أكبر عدد من اللاجئين؟ ولماذا رضينا بتقسيم السودان وربما العراق وسورية وغيرها من الدول، ولماذا لا تزال نسب الفقر والبطالة عندنا مرتفعة جداً؟ ولماذا نصدر خيرة عقولنا والمبدعين فيها ليعملوا في بلدان أخرى، ونحن في أمس الحاجة إليهم؟ ولماذا لا ترتفع كل مقاييس العدالة والمساواة والسعادة إلا في الدول الصغيرة التي لا يشكل سكانها الأصليون أكثر من 15% من سكانها على أحسن الأحوال؟

ولماذا يفرقنا كل ما هو جدير بأن يجمعنا، فنحن متفرقون أدياناً ومتفرقون شيعاً ومتفرقون قبائل ومتفرقون حول كل شيء يهم في هذه الحياة. وبعد كل هذا يخرج علينا نتنياهو المدعوم من الغرب ليقول لنا عن خططه لنا وعن أطماعه في أراضينا. فهل نصدقه أم يجب أن نعدّ العدة لمواجهته؟