
الوقود الأحفوري
على مدار السنوات الماضية، أقنع صناع السياسات في قطاعي المناخ والطاقة أنفسهم بأن العالم يسير بخطى ثابتة نحو التخلي عن الوقود الأحفوري. لكن التقارير الجديدة الصادرة عن مؤسسات عالمية تكشف واقعًا مختلفًا.. فهذا التحول لم يحدث بعد.
فقد ساد إجماع عالمي بأن استهلاك النفط والغاز الطبيعي والفحم سيبلغ ذروته قبل نهاية هذا العقد، مع اختلاف التقديرات حول سرعة التراجع القادم.. إلا أن النتيجة كانت واحدة وهي: نهاية عصر الوقود الأحفوري باتت قريبة وأصبحت قاب قوسين أو أدنى.
لكن هذا الافتراض، الذي يُعد حجر الأساس لتحقيق هدف صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050، لم يكن راسخًا كما اعتقد داعموه.
الواقع يناقض التوقعات
تشير البيانات الحديثة إلى أن الطلب العالمي على مصادر الطاقة التقليدية لا يزال قويًا، مع نمو الطلب على النفط والغاز خلال الـ 25 سنة القادمة، بل ويشهد في بعض المناطق نموًا متسارعًا، مدفوعًا بعوامل اقتصادية وجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا، وتباطؤ التحول نحو الطاقة المتجددة في بعض الدول الصناعية.
هذا التناقض بين التوقعات والسياسات من جهة، والواقع الاقتصادي من جهة أخرى، يطرح تساؤلات جدية حول مدى واقعية الأهداف المناخية العالمية، ويعيد فتح النقاش حول استراتيجيات الطاقة المستدامة، ومدى قدرة العالم على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، بحسب تقرير نشرته وكالة بلومبرغ نيوز.
يقول خافيير بلاس، وهو صحفي في بلومبرغ نيوز متخصص في مواضيع الطاقة، “فكرة أن العالم يقترب من ذروة الطلب على الوقود الأحفوري اكتسبت زخماً كبيراً بفضل وكالة الطاقة الدولية (IEA)، التي تحاول من خلال تقريرها السنوي “آفاق الطاقة العالمية” استشراف المستقبل عبر مجموعة من السيناريوهات.
وأضاف: قد يكون من السهل إلقاء اللوم على إدارة ترامب الموالية للوقود الأحفوري في هذا التحول، لكن ذلك سيكون خطأً، إذ إن التغير سبق وصول ترامب للبيت الأبيض.
ورغم أن هذه التقارير الخاصة بوكالة الطاقة الدولية مفيدة، غير أنها بعيدة عن كونها توقعات دقيقة، إذ تعتمد على افتراضات تتعلق بالنمو الاقتصادي، والتطور الديمغرافي ونمو السكان، والإرادة السياسية، والتطورات التكنولوجية، والأسعار. فهي ليست كرة بلورية سحرية تقرأ المستقبل، لكنها فقط توفر دلائل مهمة.
لطالما نشرت وكالة الطاقة الدولية سيناريو رئيسياً يستند إلى السياسات القائمة آنذاك، عُرف بـ”سيناريو السياسات الحالية (CPS)”، لكنه واجه انتقادات واسعة بسبب تقليله المستمر من أهمية الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وفي عام 2020، وتحت ضغوط أوروبية ومن جماعات البيئة، ألغت الوكالة هذا السيناريو، واستبدلته بآخر هو “سيناريو السياسات المعلنة (STEPS)”، الذي يأخذ في الاعتبار السياسات الحالية إضافةً إلى المقترحات والوعود السياسية. كما أطلقت لاحقاً “سيناريو التعهدات المعلنة (APS)”، الذي يفترض تنفيذ جميع السياسات والتعهدات المناخية بالكامل وفي مواعيدها.
هذه السيناريوهات الجديدة غيرت جذرياً مسار الطلب على الوقود الأحفوري وانبعاثات الكربون، متوقعة بلوغ الذروة بحلول عام 2029، ثم دخول مرحلة التراجع والاستغناء. وكان الانخفاض في السيناريو الأخير كبيراً لدرجة أنه عزز فكرة أن تريليونات الدولارات من احتياطيات الوقود الأحفوري قد تبقى “عالقة” دون استخدام. وقد اعتقد صناع السياسات في الغرب أن هذه السيناريوهات بمثابة توقعات مؤكدة، ما دفعهم للاقتناع بأن الطلب سيتراجع فعلاً.
غير أن كثيرين توقعوا استهلاكاً أقوى، خاصة في الفحم الذي اعتُبر أكثر “صلابة” في الطلب.
هذا العام، وتحت ضغوط من إدارة ترامب، تعود الوكالة إلى نشر “سيناريو السياسات الحالية” من جديد، حيث يُظهر – وفقاً لمسودة التقرير – أن الطلب على النفط والغاز لن يبلغ ذروته خلال العقد الحالي، خلافاً لما أشارت إليه تقديرات سابقة، بحسب مانقلت وكالة بلومبرغ عن مصادر.
ووفقاً للمسودة، فإن استهلاك النفط والغاز سيواصل الارتفاع حتى عام 2050، في حين يبلغ استهلاك الفحم ذروته في ثلاثينيات هذا القرن، لكنه سيظل في عام 2050 أعلى بأكثر من 50% مما كان متوقعاً سابقاً.
أصبحت “ذروة الاستهلاك” بمثابة الكأس المقدسة في الجدل حول الطاقة. لكن تحديد السنة التي يبلغ فيها الطلب أعلى مستوى ليس هو الأهم، بل شكل منحنى الاستهلاك قبل وبعد هذه الذروة. فالتركيز على المسار أهم من التركيز على النقطة العليا.
أما بالنسبة للنفط، فتُظهر المسودة أن الاستهلاك سيواصل نموه حتى أربعينيات القرن الحالي، وإن كان بمعدل أقل بكثير من النمو التاريخي، لكنه سيبقى “أكبر مصدر منفرد للطاقة” في منتصف القرن، تليه مصادر الطاقة المتجددة، ثم الغاز والفحم.
ذروة الطلب على النفط ليست مؤكدة بعد
ففي ظل السياسات الحالية، تتوقع وكالة الطاقة الدولية مساراً أكثر تفاؤلاً لاستهلاك النفط حتى عام 2050 مقارنةً بتقديراتها السابقة.
وبحسب حسابات “بلومبرغ” استناداً إلى سيناريوهات تقرير “آفاق الطاقة العالمية” للوكالة لعام 2024 ومسودة تقرير 2025، من المنتظر أن يبلغ استهلاك النفط نحو 114 مليون برميل يومياً بحلول منتصف القرن في إطار سيناريو السياسات الحالية (CPS)، مقارنة بـ93 مليون برميل يومياً فقط في سيناريو السياسات المعلنة (STEPS) للعام الماضي، وأقل من النصف عند 54 مليون برميل يومياً في سيناريو التعهدات المعلنة (APS).
وتشير المسودة إلى أن الزيادة ستتركز في قطاعي الطيران والشحن واستخدام النفط كلقيم في الصناعات البتروكيماوية، وفيما يتعلق بالسيارات الكهربائية فإن مستقبل استهلاك النفط سيظل قويًا لأن:
- في الصين والاتحاد الأوروبي: تبنّي السيارات الكهربائية يتسارع بسبب وجود سياسات داعمة قوية (مثل الحوافز، الإعفاءات الضريبية، والبنية التحتية).
- في الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى: التبنّي أبطأ، لأن هذه المناطق تفتقر إلى دعم سياسي كافٍ، وبالتالي مبيعات السيارات الكهربائية هناك لا ترتفع بالوتيرة نفسها.
ومع ذلك، تذكّر الوكالة بأن “سيناريو السياسات الحالية” لا يُعدّ توقعاً حقيقياً للمستقبل، بل مجرد تصور افتراضي لما قد يحدث إذا لم تتغير السياسات، لكن هذا السيناريو كان دائماً يميل إلى التقليل من دور الطاقة المتجددة مقابل تضخيم أهمية النفط والغاز والفحم، ما يجعله أقل دقة في عكس الواقع.
لكن المؤكد أن العالم لا يزال بعيداً جداً عن تحقيق هدف اتفاق باريس للمناخ لعام 2015 بحصر ارتفاع درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية؛ إذ تشير المعطيات الحالية إلى مسار أقرب إلى 3 درجات مئوية كارثية. وفي هذا السياق، ترى جهات عدة أن سيناريو الوكالة الجديد سيغذي الجدل: فصناعة الوقود الأحفوري قد تعتبره انتصاراً يؤكد صلابة الطلب، في حين سيُنظر إليه أيضاً كجرس إنذار لمخاطر التلوث المتزايد وأثره على المناخ.
حتى الآن، لا يشهد العالم “انتقالاً للطاقة” بقدر ما يشهد “إضافة للطاقة”، حيث تأتي مصادر الطاقة المتجددة لتكمل النفط والغاز والفحم، لا لتحل محلها. ومع غياب سياسات أكثر جرأة، سيبقى هذا الواقع لسنوات وربما لعقود. فالأمل وحده لا يصنع سياسة ولا يكفي.