الرئيسية

ابن رشد المغيّب في التنوير



يصرّ الباحث السوسيولوجي عثمان أشقرا في كتابه “موجز فكر التنوير” (سلمى الثقافية، المغرب، 2025) على أنّ التنوير لم يكن اختراعاً غربياً محضاً، بل شاركت في صياغته روافد متعدّدة، من أبرزها الفلسفة الإسلامية في تجليها الرّشدي العقلاني. لهذا؛ يستعيد الدور المغيّب للفيلسوف ابن رشد، الذي لم تستوعبه ثقافته المحلية، لكنّه وجد صدى واسعاً في أوروبا الوسيطة، حتى غدا الشارح الأكبر لأرسطو وركيزة أساسية في تأسيس العقلانية الحديثة. وفي هذا التوظيف الرشدي داخل الحداثة الأوروبية دلالة عميقة على أنّ الهدر المعرفي في ثقافتنا كان يجري لصالح الآخر، لا بسبب الآخر.

يشير المؤلف إلى أنّ الفكرة جاءت لتصحيح ما شُوّه من صورة التنوير، معتبراً أن من الخطأ اختزاله في الإرث الأوروبي، لأن ذلك يقطع العربي والمسلم عن امتداداته الحضارية، ويجعله يشعر بالاغتراب عن مشروع إنساني أسهم فيه. فالتنوير ليس فرنسياً ولا أوروبياً خالصاً، بل هو مشترك إنساني.

ما يُسوّق تحت اسم ما بعد الحداثة قد يكون وجهاً جديداً لخيانة التنوير

ويُبرز المؤلف أن الفكر الرشدي الذي ازدهر في القرنَين الثالث عشر والرابع عشر شكّل رافداً أساسياً للتنوير الأوروبي، عبر ما عُرف بـ”الرشديين اللاتين” الذين وجدوا في كتاباته مادة خصبة لبناء عقلانية جديدة. ويرى أنّ العقلانية الديكارتية في القرن السابع عشر لها امتداد وجذور في الفلسفة الرشدية، ما يدحض الزعم بأن لحظة التنوير انطلقت فجأة مع ديكارت.

يسلك الكتاب مساراً تاريخياً دقيقاً وغير تقليدي، إذ لا يقف عند لحظات التوهج الكبرى فحسب، بل يلتفت إلى التفاصيل التي صنعت التحول: من إحياء التراث الإغريقي، إلى النزعة الإنسانية التي أعادت الاعتبار للإنسان بوصفه غاية لا وسيلة، مروراً بالإصلاح الديني الذي زعزع البنى اللاهوتية المغلقة في القرن السادس عشر، وصولاً إلى تأسيس العقلية الفلسفية الحديثة في القرن السابع عشر، ثم بروز المرحلة التنويرية في القرن الثامن عشر. كل لحظة هنا تُقرأ في سياقها وفي توترها الجدلي مع القوى النقيضة لها.

يسلط الكتاب الضوء أيضاً على التجربتَين الهولندية والإنكليزية في التنوير، اللتين غالباً ما تُهمّشان أمام النموذج الفرنسي. ففي هولندا، أزهرت فلسفة الحرية الفكرية مع سبينوزا وتلامذته، الذين وسّعوا أفق التفكير العقلاني ليشمل نقد النصوص المقدسة والدعوة إلى الفصل بين اللاهوت والسياسة، وإعلاء حرية التفلسف ضماناً لسلامة الدولة. أما إنكلترا، فقدّمت نموذجاً لتنوير معتدل مع إسحاق نيوتن وجون لوك.

ولا يتوقف المؤلف عند تخوم الحداثة بوصفها امتداداً للتنوير، بل يتجاوزها إلى مساءلة اللحظة الراهنة، التي باتت تحتفي باللامعنى واللايقين، وتروّج لفكرة أنّ العقل أُنهك، وأنّ البشرية دخلت “عصر ما بعد العقل”. وهنا ينبه أشقرا بوضوح إلى أنّ ما يُسوّق تحت اسم ما بعد الحداثة قد لا يكون سوى وجه جديد لخيانة التنوير والتفريط في أعزّ ما أبدعه الإنسان: حريته.