الرئيسية

"الحرب في الولايات المتحدة الأميركية" بين السينما والتأريخ



فرانكلين روزفلت إلى جانب ستالين في يالطا عام 1945 (Getty)

في فيلمه الوثائقي الجديد “الحرب في الولايات المتحدة الأميركية” (War in the USA)، يقدم المخرج هانا سمر (Hannah Summer)، المؤرخ البصري المعروف بأعماله التي تدرس الشخصيات الأميركية المؤثرة ضمن سياقات تاريخية حاسمة، رؤيةً سينمائيةً لمرحلة التحول الأكبر في التاريخ الأميركي، ذلك عند تحول الرئيس فرانكلين روزفلت من رئيس يقود أميركا في عز الكساد العظيم إلى قائد أعلى للحرب العالمية الثانية. أثار الوثائقي سجالات ليس فقط بسبب موضوعه، بل أيضاً بسبب أسلوبه السردي واستخدامه الصور الأرشيفية وخطابات الرؤساء، ما يجعله عملاً يقع على مفترق طرق بين السينما والتأريخ.

الأرشيف هنا ليس مجرد شاهد على الماضي أو مادة محايدة، الأرشيف هنا تحوّل إلى ساحة معركة جديدة تُخاض فيها حروب الروايات والذاكرة. عبر مونتاجٍ ذكي للصور الأرشيفية لإعادة تشكيلها، وقطعٍ سريعٍ مباغت، وموسيقى تصويرية درامية، وانتقاءٍ للحظات الأكثر إثارةً للعواطف، يتولد سؤال جوهري: هل نرى الماضي كما كان، أم كما يريد المخرج أن نراه؟

يبدأ العمل بالتركيز على الحرب الاقتصادية التي سبقت الصراع العسكري، خاصةً بعد الكساد الكبير. يسلط الضوء على كيف أن السيطرة على الموارد، خاصة النفط، كانت عاملاً حاسماً في سياسات روزفلت. فبينما كانت أميركا تعيد بناء اقتصادها عبر الصفقة الجديدة (New Deal)، كانت الدول الفاشية في أوروبا وآسيا تسعى إلى توسيع نفوذها عبر السيطرة على مصادر الطاقة. الفيلم يربط هذا بواقع عام 2025، إذ تشهد الولايات المتحدة حرباً تجارية مع كندا والمكسيك وباقي العالم بسبب التعرفات الجمركية.

يمثّل الإعلام أحد أبرز أركان الفيلم، فيُظهر كيف استخدم روزفلت الراديو، عبر حدائق النار (Fireside Chats) لتعبئة الشعب الأميركي، وكيف استُخدمت السينما أداةً دعائية أيضاً للتعبئة. الفيلم يعرض مقاطع نادرة من أفلام مثل Why We Fight لفرانك كابرا، ففي حينها جُنِّدت هوليوود لخدمة المجهود الحربي. في القسم الثاني من War in the USA، يعود بنا العمل إلى فكرة الحلم الأميركي، لكنه يفشل في معالجة التناقض بين خطابات الحرية وممارسات الهيمنة الاقتصادية التي مهدت لظهور ما يسمى بالمجمع الصناعي العسكري لاحقاً. هذه الثغرة تجعل السرد يبدو انتقائياً، وكأنه يقدم تاريخاً سحرياً منقحاً.

المرتكز الثالث للعمل بعد النفط والإعلام هو التصنيع العسكري، يوثق الفيلم كيف حولت أميركا مصانع السيارات إلى خطوط إنتاج للدبابات والطائرات، ما جعلها ترسانة الديمقراطية كما وصفها روزفلت. الفيلم يستخدم لقطات أرشيفية مذهلة لمصانع فورد وكرايسلر، لكنه يتجاهل إلى حد كبير الجانب المظلم لهذه الصناعة، مثل تعاون الشركات الأميركية مع النازيين قبل الحرب، كما في حالة IBM وكوداك.
يشتهر هانا سمر بأسلوبه الذي يجمع بين الرصانة الأكاديمية والإثارة السينمائية، وهو ما يظهر جلياً في “الحرب في الولايات المتحدة الأميركية”. يعتمد الفيلم على لقطات نادرة من خطابات روزفلت، ومشاهد للدمار في بيرل هاربور، ولحظات صنع القرار في البيت الأبيض، يُحمّلها جميعها بدلالات جديدة. على سبيل المثال، يُظهر الوثائقي مشهداً لهتلر وهو يخطب بصوت مرتفع، تليه مباشرةً لقطة لروزفلت وهو يتحدث بهدوء، ثم صورة للجماهير الأميركية تنتظر بقلق. هذا التناوب يخلق تناقضاً إدراكياً لدى المشاهد، بين الشر الصارخ مقابل الزعيم الحكيم. هل كان روزفلت بهذه البساطة؟ الأرشيف لا يكذب، لكن المخرج عبر المونتاج يختار ما يُظهره وما يُخفيه في الكادر.

هذه التقنية ليست جديدة، فقد استخدمها سمر في فيلمه “انتصارات الرايخ الثالث”، إذ مزج بين لقطات الجيش النازي المهيبة ومشاهد المعاناة في المعسكرات، لكنه في فيلمه الجديد يذهب إلى أبعد من ذلك، مستخدماً التكرار الرمزي (مثل ظهور علم أميركا في كل منعطف) لترسيخ فكرة التفوق الأخلاقي الأميركي.

الفيلم يشبه إلى حد كبير أعمالاً وثائقية ناجحة مثل The World Wars أو Apocalypse: The Second World War، حققت رواجاً لأنها تحول التاريخ إلى دراما سهلة الهضم، فيعتقد المخرج بأن المُشاهد لا يريد تعقيدات السياسة أو الاقتصاد، بل يريد أبطالاً وأشراراً.

ابتعد “الحرب في الولايات المتحدة الأميركية” عن العديد من التساؤلات، التي كان من الممكن أن تشعل الدراما في العمل، مثل: هل كان الإعلام أداةً للتحرير أم للهيمنة؟ فبينما يصور روزفلت بطلاً ديمقراطياً، يغفل الفيلم عن نقد دور الدعاية في تبرير سياسات مثل اعتقال الأميركيين اليابانيين أو التعتيم على فظائع الحرب. أيضاً، ينجح الفيلم في تسليط الضوء على المرتكزات الثلاثة: النفط والإعلام والسلاح، لكنه يفشل في نقدها. هل كان روزفلت حقاً منقذ الديمقراطية، أم أن سياساته صنعت الإمبراطورية الأميركية التي نعرفها اليوم؟

“الحرب في الولايات المتحدة الأميركية” فيلم طموح يحاول أن يكون أكثر من مجرد وثائقي تقليدي، يقدم التاريخ بوصفه دراما إنسانية، مستخدماً الصور الأرشيفية والموسيقى التصويرية لخلق إحساس بالحضور في تلك الحقبة. لكنه يقع في فخ الرومانسية التاريخية، فتختزل تعقيدات الحرب العالمية الثانية في سردية بطولية تتمركز حول روزفلت وأميركا.