الرئيسية

من خوميا إلى بروكسل… الإسلاموفوبيا أداة اليمين المتطرف في إسبانيا



زعيم حزب فوكس اليميني سانتياغو أباسكال، مدريد 22 يوليو 2025 (إدواردو بارا/Getty)

تعيش إسبانيا هذه الأيام على وقع جدل متصاعد حول الحريات الدينية، في ظل تنامي نفوذ اليمين القومي المتطرف بقيادة حزب “فوكس” وزعيمه سانتياغو أباسكال. ففي بلدٍ تُعد فيه الكاثوليكية جزءاً من الهوية الثقافية، ويتجذر فيه تاريخ طويل من الهجرة والمصالحة بين الهويات، برز خطاب “فوكس” قوةً شعبوية تستخدم الإسلاموفوبيا والتحريض الثقافي أدواتٍ مركزيةً في أجندته السياسية.

“استعادة الهوية الكاثوليكية”

في بلدية “خوميّا” جنوب شرق البلاد، أقر المجلس المحلي قراراً يمنع استخدام المرافق الرياضية للاحتفال بالأعياد الإسلامية بحجة تنظيم استخدام الفضاء العام. واعتُبر القرار، الذي استهدف فعلياً نحو 1500 مسلم من سكان البلدة البالغ عددهم 27 ألفاً، تقييداً واضحاً لمظاهر التعددية الدينية. وصور “فوكس” القرار بوصفه خطوة دفاعية ضد “التغيير الثقافي” بينما رفضته الكنيسة الكاثوليكية والحكومة الاشتراكية برئاسة بيدرو سانشيز، التي يتهمها الحزب بـ”التواطؤ مع الإسلاميين”. ووصفت الكنيسة القرار بأنه “تمييز ديني لا مكان له في مجتمع ديمقراطي”، فردّ الحزب باتهامها بـ”خيانة الهوية المسيحية الإسبانية”.

وشكل هجوم أباسكال على الكنيسة الكاثوليكية مفاجأة، إذ اتهم الأساقفة المتعاطفين مع المهاجرين والمسلمين بـ”الصمت الجبان”، مشيراً إلى فضائح جنسية تورّط فيها بعض رجال الدين، ومتهماً المؤسسة الكنسية بـ”فقدان الشرعية في الدفاع عن القيم المسيحية”، بل مهاجماً مواقفها من قضايا مثل الإجهاض والموت الرحيم.

نظرة مواطني إسبانيا إلى المسلمين

رغم تصاعد خطاب حزب “فوكس” تظهر استطلاعات الرأي أن المجتمع الإسباني ليس كتلة واحدة في مواقفه. فبحسب مركز “بيو ريسيرش” يحمل أكثر من نصف السكان، أي نحو 54 % من الإسبان، نظرة إيجابية تجاه المسلمين مقابل 42 % سلبية، وهي من أعلى النسب في أوروبا الغربية. وتصدّرت إسبانيا قائمة الدول الغربية التي أظهرت أكثر المواقف إيجابية نحو المسلمين في فترة جائحة كورونا.

ووفقاً للمرصد الإسباني لمكافحة العنصرية (OBERAXE)، يرى 62.6 % من المواطنين أن المسلمين يواجهون رفضاً اجتماعياً بسبب الإعلام والتيارات السياسية المتطرفة والعوامل الاقتصادية. كما يعتقد 83 % أن الإسلاموفوبيا ظاهرة منتشرة ما يعكس وعياً عاماً برفضها. ورغم هجوم “فوكس” عبّرت الكنيسة عن دعمها للحريات الدينية للمسلمين، فيما اضطرت أحزاب يمينية تقليدية، كالحزب الشعبي، لتبنّي مواقف معتدلة في إشارة إلى وجود غالبية تؤمن بالتعددية والتعايش.

من الأندلس إلى بروكسل… تمدد محسوب

شكل دخول “فوكس” إلى برلمان إقليم الأندلس عام 2018، بحصوله على 10% من الأصوات، لحظة فارقة أنهت هيمنة الاشتراكيين ورسَّخت صعود اليمين المتطرف. وارتكز الحزب في خطابه على سردية “الاسترداد” التاريخية (Reconquista) في استحضار لمرحلة ما بعد سقوط الأندلس، محذراً من “استسلام ثقافي” يهدد “الهوية الكاثوليكية”. وفي انتخابات البرلمان الأوروبي 2024، واصل “فوكس” تقدمه بنحو 10% من الأصوات، منضماً بذلك إلى تحالف “الوطنيين من أجل أوروبا”، إلى جانب الفرنسية مارين لوبان والمجري فيكتور أوربان وأحزاب قومية متطرفة أخرى.

ويعتمد “فوكس” على تأجيج الخوف من الإسلام لبناء قاعدة جماهيرية. ويتحدث قادته، مثل خافيير أورتيغا سميث، عن المسلمين على أنهم “تهديد داخلي” ويتهمهم بعدم الاندماج والسعي إلى “أسلمة المجتمع”، ويصف المساجد بأنها “مراكز سياسية”، بل يتهم الهجرة الإسلامية بأنها “تهديد للهوية الأوروبية”، ولم يبق هذا الخطاب محصوراً بالحملات الانتخابية، بل تُرجم إلى مقترحات سياسية مثل حظر الذبح الحلال، ومنع الحجاب في المدارس، وفرض رقابة على تمويل الجمعيات الإسلامية. وفي مهرجان بمدينة فالنسيا، عام 2018، وصف سميث ما سماه بـ”الاجتياح الإسلامي” بأنه العدو المشترك لأوروبا والديمقراطية والحياة، متوعداً بـ”عدم الصمت”. وهذه التصريحات أدت لاحقاً إلى فتح تحقيق قضائي بحقه. 

ورغم التقدم الانتخابي، يواجه “فوكس” أزمة مالية بخسارة نحو 7.3 ملايين يورو خلال ثلاث سنوات، وتقلص عدد أعضائه النشطين. ومع ذلك، لا يزال يؤثر بقوة على الخطاب العام ويدفع حتى الأحزاب التقليدية نحو تبني مواقف أكثر تشدداً. واستضاف الحزب مؤخراً “قمة الوطنيين/ Patriots” في مدريد، بمشاركة قادة اليمين المتطرف الأوروبي، ما يعكس سعيه لترسيخ تحالف دولي يعزز شرعيته ويؤثر في النقاش السياسي الأوروبي.

إسبانيا إلى أين؟

رغم عدم حصول حوادث عنف اتجاه المسلمين على نظاق واسع في إسبانيا يرفع تصاعد خطاب الكراهية، كما في سرديات “فوكس”، من احتمالات وقوع مثل هذه الحوادث وتكرار ما شهدته بلدة “إل خيخو” جنوبي إسبانيا في عام 2000 ضد العمال المغاربة، والتي وُصفت بأنها واحدة من أسوأ حوادث العنف، حيث شُنت هجمات طاولت مساكن ومساجد ومحال يديرها مهاجرون، في أعمال عنف استمرت ثلاثة أيام عقب ارتكاب جريمتي قتل على يد مهاجرَين. وفي يوليو/تموز الماضي، أُحرق مسجد قرب برشلونة وسط صمت سياسي شبه تام باستثناء ردات فعل محلية محدودة. ويشعر كثير من المسلمين في إسبانيا بأنهم باتوا هدفاً مشروعاً في الحملات السياسية.

مع استمرار موجات الهجرة والتوترات الاجتماعية، تبقى المعركة حول الهوية الدينية والثقافية في إسبانيا مفتوحة. والمقلق في ذلك هو تسييس الدين وتحويل التعددية إلى تهديد في بلدٍ عُرف تاريخياً بتداخله الديني والثقافي العميق. ولا يكمن التحدي الحقيقي في صعود “فوكس” فقط، بل في قدرة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والكنيسة على الدفاع عن التعددية ومواجهة خطابات التمييز، قبل أن تنزلق البلاد إلى نسخة عصرية من محاكم التفتيش.