عمل داميان هيرست For the Love of God، في دار المزادات بلندن (Getty)
في شهر حزيران/ يونيو الماضي، كشف تقرير في صحيفة فاينانشال تايمز عن تزايد اعتماد المتاحف، كمتحف فان غوغ في أمستردام أو ومتحف الفنّ الحديث في نيويورك، على الدعم المالي من الغاليريات التجارية الكبيرة، من خلال المساهمة في تغطية تكاليف الإنتاج والطباعة، ما يثير تساؤلات حول استقلالية المتاحف والمؤسّسات الثقافية العالميّة، وحول قدرتها على الاستمرار بعد تراجع التمويل العمومي واضطرارها إلى الاعتماد على دعم خارجي.
أمّا لماذا تُمَوِّل هذه الغاليريات المتخصّصة في المتاجرة بـ الفنّ المعاصر، مثل “وايت كْيوب” الشهيرة، المتاحفَ والمؤسّسات الفنية، فلأنّها تبحث عن موطئ قدم يتيح لها لاحقاً اقتراح أحد فنانيها في معارض مستقبلية. وبمجرّد أن يُعرَض عمل لفنان في متحف عريق، تقفز قيمته المادية فوراً. لذلك فهذه المساعدات ليست بريئة، بل استثمار يدرّ أرباحاً مؤكّدة، إذ يمنح العمل هالة من الشرعية الأكاديمية والتاريخية حتى لو كان ضعيفاً أو مكرّراً. وهذا ما يطمئن الأثرياء الذين ينفقون الملايين على “فنّ” مبتذل تفرضه سوق الفنّ.
يرفض متحف اللوفر أيّ مساهمة مباشرة من غاليريات مثل “وايت كْيوب” بحجّة الحياد، لكنه لم يتردّد، في 11 نيسان/ إبريل 2017، في استضافة حفل إطلاق مجموعة حقائب فاخرة من دار “لْوي فويتون”، بالتعاون مع الفنان الأميركي جيف كونز، داخل الصالة التي تُعرض فيها لوحة الموناليزا، بحضور مشاهير هوليوود. وهكذا أصبح اللوفر أيضاً، وهو المتحف الأكبر في العالم، واجهة لاستغلال الفنّ في التسويق التجاري.
اختُزل الفنّ اليوم في المال والقيمة المادية فحسب
لقد حوَّل جيف كونز الموناليزا إلى ملصق يزيّن حقيبة فاخرة، جاعلاً منها سطحاً استهلاكيّاً باذخاً. عُرف هذا الفنان بمنحوتاته التي تمثّل كلاباً تبدو للوهلة الأولى بالونات أطفال منفوخة، لكنها في الحقيقة مصنوعة من فولاذ لامع لا يصدأ. وقد بلغ ثمن أحد هذه الكلاب الملوّنة في مزاد “كريستيز” عام 2013 نحو 58.4 مليون دولار. في لعبة المال نفسها، بيعت منحوتة الجمجمة الشهيرة التي أنجزها داميان هيرست عام 2007 – جمجمة بشرية مرصّعة بالماس – بخمسين مليون جنيه إسترليني (قرابة 67 مليون دولار)، وكانت آنذاك أغلى منحوتة لفنان معاصر حيّ.
من صالة الموناليزا التي تحوّلت إلى حفلة استعراض ووليمة فاخرة، مروراً بمركز جورج بومبيدو الثقافي، وصولاً إلى قصر فرساي الذي فُتح أمام أعمال جيف كونز والفنان الياباني تاكاشي موراكامي والبريطاني-الهندي أنيش كابور، لم تعد الفضاءات التاريخية الكبرى (المتاحف والقصور والساحات) حصوناً للذاكرة والفنّ، بل مسارح استعراض تجاري تُكرِّس “الفنّ-البضاعة” جزءاً من الشرعية الثقافية المعاصرة.
تقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ أكثر ما يجمع الفنانين الذين أتينا على ذكرهم، وهم شخصيات محوريّة في الفنّ المعاصر ومن أبرز وجوه التسويق في العالم، هَوَسهم الشديد بالمال. لقد صرّح كونز مراراً بأنّ هدفه هو إزالة الإحراج عن “الكيتش” والسطحيّ واللامع، وأنّ الفنّ بالنسبة إليه مُنتَج موجّه إلى الجماهير مثل الكوكاكولا أو الماكدونالدز. أما هيرست فقال: “إنّ السوق والمزاد والمعرض جزء لا يتجزأ من عمله الفني”. هيرست وكونز من ورثة الفنان إندي وارهول الذي سبقهم إلى إزالة الفاصل بين الفنّ ورأس المال، وهو القائل: “صناعة المال فنّ، والعمل فنّ، وأفضل الفنون على الإطلاق هو الأعمال التجارية الناجحة”. وقد جعل الفنانون الثلاثة من السوق والمضاربة والتجارة موضوعاً لفنّهم، ليصبح الفنّ ورأس المال وجهين لعملة واحدة.
تحوّلت الظاهرة إلى منظومة تشارك فيها مؤسّسات الفنّ الكبرى
لم تعد هذه الظاهرة مجرّد “نزعة” عند بعض الفنانين، بل تحوّلت إلى منظومة متكاملة تشارك فيها مؤسّسات الفنّ الكبرى، من متاحف وغاليريات ودُور مزادات ومجلّات فنية وجيش من المتواطئين الذين يتبنّون خطاباً نقديّاً يبرّر البشاعة ويمجِّد الابتذال ويغلّف الفراغ بشعارات ما بعد حداثيّة.
صحيح أنّ المال فرض سطوته في كلّ العصور، وفي عصر النهضة الإيطالية كان للفنّ دور في خدمة السلطة الدينيّة والسلطة المدنيّة على السواء، لكنّ ثمّة اختلافاً كبيراً بين ما حصل آنذاك وما يحصل اليوم. إنّ سلطة آل مديتشي في فلورنسا أو غيرهم من الحكّام الذين كانوا رعاة للفن أكثر من كونهم مضاربين فيه، أو البابوات في روما، لم تغيّر من طبيعة الفنّ الذي ظلّ محتفظاً بجوهره ويجسّد قمماً جمالية وفكرية مع فنانين من أمثال دافنشي وميكيلانجلو وبوتيتشيلي. ولئن خدم الفنّ السلطة التي كانت تسعى إلى تثبيت وجودها وتلميع صورتها، فإنه تجاوزها ليصبح إرثاً إنسانيّاً كونيّاً، بينما اختُزل الفنّ اليوم في المال والقيمة المادية فحسب. وإذا كانت الفنون كلّها قد دخلت دوّامة السوق منذ عقود، فإنّ الفنّ التشكيلي هو المجال الذي بلغ فيه تسليع الإبداع أقصى مداه.
الفنّ، في جوهره، ليس ترفاً ولا زينة. إنه بحث عن المعنى وفِعل كشف ومواجهة وسفر دائم نحو الأعماق، وهو أيضاً دعوة إلى طرح الأسئلة الأساسية التي تتعلّق بعلاقة الإنسان بنفسه، وبالآخر، وبالكون. غير أنّه في زمننا الراهن، يُعامَل بوصفه سلعة قابلة للتداول ومصدراً للثراء، فلا يعود، والحال هذه، مجرّد “تسويق”، بل يصبح تشويهاً للذاكرة الثقافية وإفراغاً للفنّ من رسالته. نحن في مرحلة انتصار الخزعبلات والتزوير على المعنى الحقيقي للفنّ، بحيث يُنتزع من سياقه الفني والتاريخي والإنساني، وهذا ما يشكّل تهديداً لدوره ولدور الثقافة عبر العصور.
الذهنية الجشعة التي تُفرِّغ الفنّ من معناه هي نفسها التي تفرِّغ الإنسان من إنسانيته، والطبيعة من روحها، كما تحوّل الجسد إلى رقم في الحرب، والبيئة إلى رهينة في ميزان الأرباح. لذلك فإن الدفاع عن الفنّ هو، في العمق، دفاع عن الإنسان، وعن قيَم لا تُشترى بالمال، ومن أجل أن تبقى هذه الأرض أمّنا جميعاً ومكاناً صالحاً للعيش.
* كاتب وشاعر لبناني مقيم في باريس