غوطة دمشق الشرقية، 13 أغسطس 2025 (بكر القاسم/الأناضول)
ذكّرت تكبيرات المساجد في دمشق قبيل فجر أمس الخميس، بواحدة من أكثر المجازر وحشية وقسوة التي ارتكبها نظام بشار الأسد المخلوع، وأثارت مجدداً تساؤلات الشارع السوري حول العدالة الانتقالية في البلاد، وتأخر مثول عدد من المتهمين الكبار في ارتكاب جرائم حرب، قُبض عليهم أمام القضاء. ورفعت مساجد دمشق في الساعة الثانية من فجر أمس الخميس، تكبيرات إحياء لذكرى مجزرة الكيميائي التي ارتكبها نظام الأسد في 21 أغسطس/آب 2013 في غوطتي دمشق الغربية والشرقية، في واحدة من أكثر المجازر وحشية طيلة سنوات الثورة. وأطلقت قوات النظام المخلوع في تلك الليلة ما لا يقل عن عشرة صواريخ محملة بغازات سامة، تُقدَّر سعة الصاروخ الواحد بـ 20 لتراً، من غاز السارين، وفق الشبكة السورية لحقوق الانسان.
مجزرة غوطة دمشق
وقالت الشبكة في تقرير لها أمس الخميس إن الهجوم أدى إلى مقتل 1119 مدنياً، بينهم 99 طفلاً و194 امرأة (أنثى بالغة)، كما أصيب نحو 5935 شخصاً، غالبيتهم من المدنيين، بأعراض تنفسية وحالات اختناق جرّاء التعرّض للغازات السامة. ودعت الشبكة إلى أن تكون العدالة والمساءلة “أولوية في المسار الانتقالي” الذي دخلته البلاد في مارس/آذار الماضي. ولمّا تزل تلك المجزرة ماثلة في أذهان السوريين، تذكرهم كل عام بالمأساة التي عايشوا تفاصيلها المؤلمة على مدى نحو 14 سنة. وهذه المرة الأولى التي تمر بها هذه الذكرى الموجعة والبلاد قد تخلصت من نظام الأسد وأركانه من عسكريين وأمنيين وسياسيين وشبيحة، والذين استطاع عدد كبير منهم وخاصة الصف الأول الهروب إلى خارج البلاد إما إلى موسكو أو إلى دول عربية.
فضل عبد الغني: تخليد يوم المجزرة الكيميائية في الغوطة يندرج في سياق العدالة الانتقالية
وبقي في سورية عدد غير معروف من كبار المتهمين بارتكاب مجازر وجرائم خلال سنوات الحرب السورية، تم القبض على بعضهم منذ الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، تاريخ سقوط الأسد، وحتى اليوم. وفي مشهد غير مسبوق في تاريخ سورية المعاصر، مثُل في السابع من أغسطس أمام المحاكم، عدد من أركان النظام المخلوع متهمون بـ”القتل العمد، والتعذيب المفضي إلى الموت، والاعتداء الذي يستهدف إثارة الحرب الأهلية، والتحريض والاشتراك والتدخل في عمليات قتل”.
ومن بين الذين ظهروا أثناء التحقيق: عاطف نجيب، والذي كان عميداً في جهاز الأمن السوري في عهد بشار الأسد، وإبراهيم حويجة الذي ظل لفترة طويلة رئيساً لجهاز المخابرات الجوية أكثر الأجهزة قسوة في التعامل مع السوريين، وأحمد حسون المفتي العام السابق لسورية. ومثُل أيضاً، محمد الشعار وزير الداخلية الأسبق في حكومة الرئيس المخلوع بشار الأسد، والمتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إبان عمله في الأجهزة الأمنية.
ولكن لم يمثل بقية المتهمين، وجلهم عسكريون ومن بينهم طيارون، أمام القضاء بشكل علني رغم مرور عدة أشهر على القبض عليهم، وهو ما يثير مخاوف من التأخير في انطلاق مسار العدالة الانتقالية، مع ما يحمل ذلك من مخاطر على السلم الأهلي بفتحه الباب أمام “عدالة انتقامية” بسبب تعاظم مشاعر النقمة. وجرت بالفعل تصفيات بحق متهمين بارتكاب جرائم. وأثار منح الإدارة السورية الجديدة “الأمان” لبعض أركان النظام المخلوع، مخاوف لدى الشارع السوري من إفلاتهم لاحقاً من العقاب عبر تسويات غير معلنة. وأثارت “المصالحة” مع فادي صقر، الذي كان قائد مليشيات الشبيحة في جنوب دمشق والمتهم بارتكاب جرائم ومجازر، حفيظة الشارع الذي لم يقتنع بما ساقته الإدارة من حجج لتبرير ذلك. وأكدت الإدارة أكثر من مرة أنها تعتمد على صقر في حلحلة عقد أمنية واجتماعية خصوصاً في الساحل السوري. وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد شكّل في مايو/أيار الماضي “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، وتتمتع باستقلالية مالية وإدارية من مهامها “كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية”. والولاية الزمنية للهيئة خمس سنوات قابلة للتمديد.
محمد صبرا: أدعو الحكومة للالتفات إلى المجزرة باعتبارها أكبر من جريمة حرب
وفي تصريحات صحافية، نشرت قبل أيام، بيّن رئيس الهيئة العميد عبد الباسط عبد اللطيف، أنه يجري العمل على إنجاز مشروع قانون للعدالة الانتقالية وجرائم الانتهاكات الجسيمة، موضحاً في تصريحات صحافية، أن المحاكمات على الجرائم الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد، وهي جرائم الإبادة وجرائم الحرب وجرائم التعذيب وجرائم الإخفاء القسري واستخدام الغازات السامة والكيميائي. وتعليقاً على ذكرى مجزرة الكيميائي في غوطتي دمشق، دعا مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى إقرار يوم حداد وطني لضحايا الأسلحة الكيميائية في سورية في 21 أغسطس كل عام، مضيفاً: الهجوم الذي جرى في ذلك اليوم أكبر من أي هجمات أخرى بالأسلحة الكيميائية قام بها النظام البائد. وحول مسار العدالة الانتقالية، قال إنه “من المبكر تقييم عمل الهيئة وهي لا تزال قيد التشكيل”، مشيراً إلى أن الخطوة الأولى هي إصدار النظام الأساسي الناظم لعملها، والأمر بحاجة إلى وقت. وبرأيه، تخليد يوم المجزرة الكيميائية في الغوطة “يندرج في سياق العدالة الانتقالية”، مضيفاً: على الحكومة ملاحقة أولئك الذين ارتكبوا المجزرة سواء من صنّعوا هذا السلاح الفتاك، أو من استخدمه، واعتقالهم لتقديمهم للعدالة.
أول استخدام موثق للكيميائي
من جهته، قال الحقوقي محمد صبرا، في حديث مع “العربي الجديد”، إن مجزرة الكيميائي في غوطتي دمشق عام 2013 “تعتبر أول استخدام موثق للسلاح الكيميائي في الألفية الجديدة”، مضيفاً: تلك الجريمة أثبتت أن نظام المجرم الهارب لم يكن مجرد نظام استبدادي بل كان أشبه باحتلال داخلي. وطالب صبرا الحكومة السورية بـ”الالتفات إليها باعتبارها أكبر من جريمة حرب”، مضيفاً: يجب على هيئة العدالة الانتقالية أن تبدأ بشكل فعلي بتفعيل كل الأدوات القانونية اللازمة من أجل الوصول إلى العدالة ومنع المجرمين من الإفلات من العقاب. كما دعا إلى “العمل بشكل مكثف لإبراز خطورة هذه الجريمة على المستوى الدولي وتنظيم حملة دبلوماسية وإعلامية للضغط على روسيا الاتحادية بمساندة المجتمع الدولي، وذلك لتسليم المجرم الهارب للعدالة (بشار الأسد)، لمحاكمته على هذه الجريمة المروعة”. وتابع: إن التراخي بالسير بمسار العدالة الانتقالية يمنع من تحقيق السلم الأهلي، والاستقرار المجتمعي المطلوب في المرحلة الانتقالية، إذ لا سلام بلا عدالة ولا أمن بلا عقاب للمجرمين، إن تكريم ذكرى الضحايا لا يمكن أن يتم إلا عبر سوق الجناة لقاعة المحكمة.