
الاقتصاد الألماني
تقف ألمانيا اليوم عند مفترق دقيق يعيد طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل أكبر اقتصاد أوروبي، وأحد أعمدة الصناعة العالمية لعقود طويلة. فبين تفاقم العجز المالي في المدن، وارتفاع تكاليف المعيشة والطاقة، وتزايد الإنفاق على برامج الرعاية والمهاجرين، وبين ضعف أداء القطاعات الصناعية وانكماش الصادرات، تتراكم طبقات الأزمة ضمن مشهد اقتصادي غير مسبوق.
وتتعزز الصورة قتامةً مع ارتفاع الدين العام إلى 3.14 تريليون دولار، وإعلان 24.200 شركة إفلاسها هذا العام بمعدل شركة كل 22 دقيقة، وفقدان قطاع السيارات 55 ألف وظيفة في عامين فقط، إضافة إلى بلوغ عدد الألمان الذين يعانون الديون 5.7 مليون شخص.
وفي هذا السياق، قدّم ناصر زهير، رئيس وحدة الشؤون الدبلوماسية والاقتصادية في المنظمة الأوروبية، قراءة معمّقة خلال حديثه لبرنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، تناول فيها جذور الأزمة وطبيعتها وامتداداتها الداخلية والخارجية، منطلقاً من تأكيد أنّ الأزمة “حقيقية وكبيرة جداً” لكن توصيف إفلاس المدن يبقى “مبالغة سياسية”.
مسؤول ألماني يحذّر: معظم مدننا تتجه نحو الإفلاس
أزمة البلديات… بين الواقع المالي والمبالغة السياسية
بدأت الشرارة من تصريح عمدة مدينة إيسن، إحدى كبرى المدن في غرب ألمانيا، حين أعلن أن “كل مدينة تقريباً على وشك الإفلاس”، مستنداً إلى عجز مالي يقدَّر بنحو 35 مليار دولار في ميزانيات البلديات. ويشير العمدة إلى أنّ تكاليف المهاجرين — التي تبلغ في المتوسط 60 مليار دولار سنوياً — تُعد من أبرز أسباب الضغط، إلى جانب ارتفاع أسعار المساكن والطاقة وتكاليف المعيشة.
إلا أنّ ناصر زهير أكد خلال حديثه أن هذا الخطاب يحمل طابعاً سياسياً هدفه الضغط على الحكومة الفدرالية لزيادة الدعم، أكثر مما يعكس حالة إفلاس واقعية. فبحسب قراءته، لا توجد حتى الآن مؤشرات فعلية على إمكانية إعلان أي مدينة ألمانية إفلاسها، رغم وجود أزمة مالية واضحة وعجز متنامٍ.
زهير: ألمانيا تحتاج سنويا 250 ألف مهاجر في سوق العمل
ويرى زهير أن “التهويل” جزء من سجال واسع بين البلديات والحكومة المركزية في برلين حول حجم الإنفاق الحكومي ودعم الميزانيات المحلية، مشيراً إلى أن الأزمة قابلة للمعالجة “بشكل أو بآخر”، غير أن بطء تحرك الحكومة في السنوات الأخيرة زاد الوضع تعقيداً.
جدل المهاجرين… تكلفة قائمة وفائدة استراتيجية
يحتل ملف الهجرة موقعاً مركزياً في النقاش السياسي والمالي داخل ألمانيا. فارتفاع تكلفة برامج الرعاية الاجتماعية التي تستفيد منها نسبة كبيرة من ذوي الأصول المهاجرة يثير جدلاً واسعاً، وتتحول هذه النفقات إلى مادة سياسية ساخنة توظَّف في النقاش الداخلي.
لكن زهير يقدّم رؤية مختلفة تقوم على التفريق بين التكلفة الآنية والفوائد الاقتصادية المستقبلية. ويشير إلى أنّ جزءاً مهماً من الانتقادات الموجهة لبرامج الرعاية يرتبط بكونها تدعم بشكل كبير “أشخاصاً كباراً في العمر”، ما يجعلها أقل فعالية، لكن هذه المشكلة لا تتعلق بالمهاجرين بقدر ما ترتبط ببنية النظام الاجتماعي الألماني نفسه.
ويؤكد زهير أنّ السوق الألمانية تحتاج سنوياً إلى 250 ألف عامل مهاجر إضافي لضمان استمرارية الإنتاجية وسد فجوات نقص العمالة. وبالتالي، فإن التركيز السياسي على الجانب السلبي للهجرة يغفل الجانب الإيجابي الذي يمثّل رافعة اقتصادية ضرورية، ليس فقط عبر العمالة المباشرة، بل أيضاً عبر مساهمة الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين.
ويرى أن تحميل المهاجرين مسؤولية الأزمة الحالية مبالغة، لأن جزءاً كبيراً من الإنفاق الاجتماعي يذهب فعلياً إلى كبار السن الألمان، وهي مشكلة أوروبية عامة ناجمة عن شيخوخة السكان.
من “قاطرة أوروبا” إلى “الرجل المريض”… اهتزاز المكانة الاقتصادية
لعقود طويلة، شكّلت ألمانيا القلب الصناعي والمالي للاتحاد الأوروبي، وقاطرة النمو التي تعتمد عليها القارة. غير أنّ تراكم الأزمات رفع أصواتاً داخل أوروبا تصف ألمانيا اليوم بـ “الرجل المريض”.
ويستعرض زهير الأسباب البنيوية التي أوصلت ألمانيا إلى هذا الوضع من خلال أربع أزمات متداخلة:
- غياب القيادة السياسية بعد ميركل
يرى زهير أن خروج المستشارة أنجيلا ميركل من المشهد تسبب في “انقطاع سلسلة سياسية” استمرت لسنوات وأسست لاستقرار اقتصادي راسخ. ويشير إلى أنّ انتقال السلطة إلى الحزب الاشتراكي تم “دون برامج أو رؤية واضحة”، ما أدى إلى ارتباك انعكس على طريقة إدارة الملفات الاقتصادية الكبرى. هذا الفراغ القيادي وفق تحليله كان الشرارة الأولى التي جعلت الاقتصاد الألماني أقل صلابة أمام المتغيرات.
- جائحة كورونا وتأثيرها على الاقتصاد الصناعي
تعتمد ألمانيا على الصناعة كركيزة أساسية لناتجها القومي. ولذلك، جاء تأثير جائحة كورونا قاسياً مقارنة بدول تعتمد على الخدمات أو التقنيات. توقف المصانع وتجمّد خطوط الإنتاج أدَّى إلى خسائر عميقة تركت آثاراً ممتدة، ولا يزال الاقتصاد يحاول التعافي منها.
- حرب أوكرانيا وفقدان الغاز الروسي… الضربة الأثقل
بحسب زهير، يمثّل الغاز الروسي “شريان الحياة” الذي قام عليه النمو الاقتصادي الألماني لعقود. فضعف كلفة الطاقة مكّن الصناعة الألمانية من تحقيق تنافسية عالية في الأسواق العالمية.
لكن اندلاع الحرب في أوكرانيا وإيقاف تدفق الغاز الروسي قَطَع هذا الشريان، واضطرت ألمانيا لشراء الطاقة من مصادر أخرى “بتكلفة أربعة أضعاف”.
وقد انعكس ذلك فوراً على الشركات والمواطنين من خلال ارتفاع فواتير الكهرباء والتكاليف الإنتاجية، ما أدى إلى موجة إفلاسات واسعة؛ من بينها 24.200 شركة خلال عام واحد.
ويرى زهير أن ما خسرته ألمانيا بسبب انقطاع الغاز الروسي “أكبر بكثير” من الدعم الذي قدمته لأوكرانيا، لأن الصدمة طالت العمود الفقري للصناعة الألمانية.
- بطء اتخاذ القرار… فجوة بين الضرورة الاقتصادية والرفاهية البيئية
يُعدّ بطء الاستجابة الحكومية أحد أكثر عناصر الأزمة تأثيراً. فبينما كانت الأزمة تتطلب حزم إنقاذ عاجلة على غرار ما حدث خلال كورونا، جاءت خطوات الحكومة “بطيئة جداً”، كما وصفها زهير.
ويشير إلى مثال صارخ يتمثل في قرار إغلاق المفاعلات النووية التي تنتج كهرباء منخفضة التكلفة في ذروة أزمة الطاقة، تحت ذريعة الاعتبارات البيئية. هذا القرار وضع الصناعة والمستهلكين أمام فواتير أعلى، فيما لجأت دول كبرى مثل الولايات المتحدة إلى العودة إلى الفحم لتجاوز الأزمة.
ويرى زهير أن هذا التباعد بين “الواقع الضروري” و”الرفاهية الأخلاقية” ساهم في زيادة الضغوط على الاقتصاد.
رابعاً: انعكاسات اقتصادية واجتماعية ثقيلة
تتجلّى نتائج الأزمة في عدة مؤشرات خطيرة، أبرزها:
- دين عام يبلغ 3.14 تريليون دولار.
- إفلاس 24.200 شركة خلال عام واحد.
- فقدان 55 ألف وظيفة في قطاع السيارات خلال عامين فقط.
- ديون شخصية مستجدة تطال 5.7 مليون ألماني.
- ارتفاع تكلفة المهاجرين إلى 60 مليار دولار سنوياً.
- عجز مالي في البلديات يصل إلى 35 مليار دولار.
هذه الأرقام — التي لم تعرفها ألمانيا منذ سنوات طويلة — تعكس عمق الأزمة البنيوية وليست مجرد اضطرابات عابرة.
أزمات متراكمة
يقدم تحليل ناصر زهير صورة مركّبة لأزمة ألمانية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واستراتيجية. فالأزمة حقيقية وعميقة، لكنها ليست إفلاساً مالياً بالمعنى الدقيق، بل نتاج تراكمات تمتد من غياب القيادة السياسية بعد ميركل، إلى جائحة كورونا، إلى الحرب في أوكرانيا وانقطاع الغاز الروسي، إلى بطء اتخاذ القرار.
وفي مقابل الجدل المتصاعد حول تكاليف المهاجرين، يبرز دورهم الفعلي كـ “عصب ضروري” لسوق العمل الألمانية التي تحتاج سنوياً إلى 250 ألف عامل.
وبين ضغوط الداخل وتقلبات الخارج، تقف ألمانيا أمام اختبار يحدد ما إذا كانت ستستعيد موقعها كقوة اقتصادية أوروبية أولى… أم ستظل لفترة أطول في خانة “الرجل المريض”.
مدن ألمانيا على حافة الإفلاس .. تحذير صادم
