الرئيسية

بماذا يفكّر بوتين؟



منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، يُطرح سؤال مركزي: ما الذي يدور في ذهن بوتين؟ كيف تفكّر هذه الشخصية التي أدخلت بلادها في مواجهة مفتوحة مع الغرب؟ لفهم دوافعه لا تكفي القراءة السياسية البحتة، بل يتطلب الأمر الغوص في خلفياته الفكرية والفلسفية التي تشكل رؤيته للعالم ولنفسه بوصفه حاكماً.

هنا يكتسب كتاب “داخل عقل فلاديمير بوتين” للكاتب الروسي ميشيل إلتشانينوف أهميته، إذ يقدّم مفاتيح لفهم الأسس الفلسفية التي يستند إليها بوتين في صياغة سياساته الداخلية والخارجية، التي تقوم على ركائز أربع، هي: السلافوفيليا، والأوراسية، وفلسفة إيفان إيليين، ودور الكنيسة الأرثوذكسية، حيث يرسم الكتاب صورة مركبة لبوتين، تتجاوز صورة السياسي البراغماتي إلى “حاكم-فيلسوف” يرى نفسه حارساً للهوية الروسية ورسولاً لرسالة حضارية وروحية. هذه الخلفيات الفكرية تجعل من قراءة الحرب الروسية الأوكرانية اليوم أكثر تعقيداً، إذ يتضح أنها ليست مجرد نزاع جيوسياسي، بل امتداد لصراع أعمق حول الهوية والمصير ورسالة روسيا في العالم.

في الطبعة الثانية من الكتاب (آكت سود، 2022)، يكشف إلتشانينوف عن جذور أفكار الرئيس الروسي التي تعود إلى تقاليد الفلاسفة الروس والأيديولوجيين القوميين، إذ تأثر تأثراً كبيراً بفكر السلافوفيليا، الذي نشأ في القرن التاسع عشر على يد قسطنطين أكساكوف وألكسي خومياكوف وإيفان كيريفسكي، وتبناها كتّاب وأدباء مثل نيكولاي غوغول وفيودور تيوتشيف وفلاديمير دال، وتركّزت دعوتهم حول فكرة أن الشعب الروسي يتمتع بهوية ثقافية وروحية فريدة تميزه عن الغرب، وأن رسالته للعالم تستند إلى القيم الأرثوذكسية المسيحية العميقة، وهي فكرة تبناها بوتين في سياساته وسعيه لتعزيز الوطنية الروسية في مواجهة التأثيرات الغربية.

صراع أعمق حول الهوية والمصير ورسالة روسيا في العالم

كما تناول إلتشانينوف في تحليله تأثير الحركة الأوراسية على بوتين، والتي تعتبر روسيا قوة جيوسياسية وثقافية تجمع بين الشرق والغرب، ونادى بها في مطلع القرن العشرين فلاسفة مثل: نيكولاي تروبيتسكوي وليف غوميليف، ليعود إحياؤها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي مرة أخرى.

من جهة أخرى، يشكل فكر إيفان إيليين (1883 – 1954) أحد الأعمدة الأساسية لدى بوتين، حيث يؤمن هذا الفيلسوف الروسي بأن الدولة يجب أن تكون مؤسسة روحية متجذرة في القيم الأخلاقية، وأن الزعيم يجب أن يكون الحامي لهذه القيم. 

وتشكل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أيضاً جزءاً لا يتجزأ من فلسفة بوتين السياسية، حيث يعتمد عليها في تعزيز الشعور بالوطنية الروسية، ورسّخ تحالف بوتين مع الكنيسة كذلك فكرة أن روسيا ليست مجرد دولة قومية، بل هي قوة روحية تلعب دوراً مهماً في حفظ التوازن الأخلاقي في مواجهة الغرب.

يعتمد بوتين على هذه الأفكار مجتمعة لترسيخ سلطته السياسية، فهو يبرر سياساته المحافظة باعتبارها دفاعاً عن القيم الروحية الروسية، ويرى أن أي تحدٍّ داخلي يُعتبر تهديداً لها، بينما توفر الفلسفة الأوراسية على صعيد السياسة الخارجية إطاراً لفهم تحركاته الجيوسياسية، لإعادة روسيا إلى موقع القيادة قوةً مستقلةً لا تخضع لأي تكتلات عالمية أخرى. 

وفي الوقت الذي يعيد فيه بوتين بناء الهوية الروسية على أساس هذه الأفكار الفلسفية، لا يخفي إلتشانينوف أن ذلك قد يؤدي إلى عزلة روسيا على المسرح الدولي، ويرى أن التمسك المفرط بالهوية الروحية والقومية قد يحوّل روسيا إلى دولة منغلقة على نفسها، ما يحدّ من قدرتها على الانفتاح على العالم الخارجي، ويؤدي إلى توترات جديدة على المستوى الدولي. 

وهنا يقدم الكتاب نقداً واضحاً لاستخدام الفلسفة أداة لدعم سلطة سياسية استبدادية، عندما توظَّف لقمع المعارضة، حيث يصبح الفكر أداة لتبرير التسلط. وبحسب إلتشانينوف، فإن بوتين ليس مجرد متأثر بهذه الفلسفات، بل يعيد صياغتها بطريقة تخدم أهدافه السياسية، ما يطرح تساؤلات حول مدى التزامه الحقيقي بالقيم الروحية التي يدعي الدفاع عنها.