
هل تستطيع تأشيرة كي الصينية تجاوز حاجز اللغة لجذب المواهب؟
في أحدث فصول التنافس بين القوى العظمى، تشهد سياسات الهجرة واستقطاب الكفاءات العالمية تحولاً جذرياً يضع المواهب التقنية أمام خيار صعب. فبينما يوشك برنامج التأشيرة الصينية الجديدة “تأشيرة كي” على الانطلاق، مُستهدفاً خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بتسهيلات غير مسبوقة مثل إلغاء شرط وجود صاحب عمل راعٍ، تفرض الولايات المتحدة قيوداً غير مسبوقة على دخول العمالة الماهرة.
وتتجلى هذه القيود في خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لرفع تكلفة تأشيرات “إتش-بي 1” إلى مبلغ باهظ يصل إلى 100 ألف دولار. هذا التباين الحاد في التوجه يفتح الباب أمام سؤال استراتيجي: هل تُعد “تأشيرة كي” الصينية الرد الاستراتيجي على قيود واشنطن؟ وهل تدفع سياسات ترامب المواهب العالمية بالفعل نحو أحضان بكين، لتمنح الصين تفوقاً مبكراً في معركة استقطاب العقول؟
خطة الصين المضادة في ساحة التنافس التقني
ينطلق هذا الأسبوع برنامج التأشيرة الصينية الجديدة “كي”، الذي يهدف لجذب المواهب الأجنبية في مجال التكنولوجيا، في توقيت يتزامن مع تشديد الولايات المتحدة دخول العمالة الماهرة. هذا التوقيت ليس من قبيل المصادفة، حيث جاء الإعلان متزامناً مع قيام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بفرض رسوم قدرها 100 ألف دولار ثمناً لتأشيرة “إتش-بي 1” للعمال المهرة، في خطوة تُعَد مكلفة للغاية بالنسبة للشركات الأميركية، وتؤثر سلباً على توظيف الأجانب في المهن عالية المهارة مثل تكنولوجيا المعلومات، بحسب تقرير نشرته “نيويورك تايمز”.
وأوضح التقرير أنه على الرغم من أن الصين تمتلك عدداً كبيراً من المهندسين المحليين، إلا أنها تسعى للترحيب بالاستثمارات والمواهب الأجنبية في خضم التنافس الشديد مع واشنطن من أجل الهيمنة التقنية والجيوسياسية.
تسهيلات “كي” تتجاوز عقبات التأشيرة الأميركية
ولفت التقرير إلى أن عامل الجذب الرئيسي في “تأشيرة كي” يكمن في أنها مصممة لتسهيل سفر خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، حيث تمنحهم إقامات أطول زمناً ودخولاً متعدداً، والأهم أنها لا تطلب رسالة دعوة من الشركة
ويمثل هذا التسهيل نقطة تباين حاسمة مع النظام الأميركي؛ فتأشيرة “إتش-بي 1” تتطلب رعاية صاحب العمل وتخضع لنظام قرعة محدود، مما يجعلها أحد أكبر العقبات أمام المتقدمين، حيث يرى مايكل فيلر كبير الاستراتيجيين لدى شركة “جيوبوليتيكال ستراتيجي” أن الولايات المتحدة أضرت بنفسها فيما يتعلق بتأشيرات “إتش1-بي”، وأن التوقيت رائع فيما يتعلق بـ “تأشيرة كي” الصينية.
وتُقدم “كي” مساعدة كبيرة للشركات الناشئة التي لا تملك الموارد لتقديم تأشيرات التوظيف التقليدية، وللطلبة الأجانب الباحثين عن عمل، مما يجعل “البقاء في الصين للبحث عن العمل أسهل بكثير” وفقاً لما قاله خبير التوظيف في شركات التكنولوجيا أنغوس تشن.
وادي السيليكون يميل نحو “أميركا أولاً“
على الصعيد الأميركي، تسببت السياسات الجديدة في خلق بيئة من النفور لدى الكفاءات الأجنبية. وبينما كانت إدارة ترامب تقوم بـالهجوم على الجامعات الأميركية وتقليص تمويل البحث الفيدرالي، قامت الصين بالاستثمار على نحو واسع في البحث والتطوير، واستقطبت بعض كبار العلماء من الولايات المتحدة لشغل مناصب لديها، بحسب تقرير الصحيفة الأميركية.
ويشعر عمال التقنيات من الدول الأخرى بالقلق من أنهم “لم يعد مرحّباً بهم في الولايات المتحدة” بسبب شعار ثقافة “أميركا أولاً” المتزايدة في وادي السيليكون، مما يجعلهم يفكرون في “تأشيرة كي” كـ”خيار آخر” متاح، وفقاً لجورج تشين، الشريك في شركة آسيا جروب، مما يزيد من فرص الصين لتصبح أكثر انفتاحاً على العالم.
تحديات داخلية تظل قائمة رغم الإغراء
وعلى الرغم من هذا الإغراء، لا تزال الصين تواجه عقبات في طريق استقطاب أعداد كبيرة من المواهب الأجنبية. فالعلماء الأجانب يواجهون حواجز اللغة، والاختلافات الثقافية والسياسية، فضلاً عن الاحتمالات المحدودة للحصول على إقامة دائمة.
وقال المحلل التقني والباحث في جامعة “ستانفورد”، دان وانغ: “لطالما سعت الصين إلى استقطاب الخبرات الأجنبية، لكنها كانت انتقائية وبشروطها”. وأضاف: “عموماً، تريد الصين، الأجانب المنتجين اقتصادياً”. حيث توضح الحكومة أن الأجانب الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً، سيواجهون أوقاتاً عصيبة في الحفاظ على إقاماتهم في الصين.
إلى ذلك، يشير محللون إلى أن الهنود، وهم أغلبية حاملي تأشيرة “إتش-بي 1” لا يذهبون إلى الولايات المتحدة فقط بسبب التأشيرة، بل “بسبب أسلوب المعيشة بصورة عامة” والأمل في أن يصبحوا مواطنين أميركيين في نهاية المطاف، مما يجعلهم غير مقتنعين بسهولة باستبدال أمريكا بالصين، طبقاً لما قاله الصحافي الهندي سانتوش باي.
شكوك حول نجاح التجربة الصينية
ويبدي طارق الرفاعي الرئيس التنفيذي لمركز “كوروم للدراسات الاستراتيجية” تشككاً واضحاً في قدرة “تأشيرة كي” على تحقيق أهدافها. وفي حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يرى الرفاعي أن محاولات تقليد التجربة القوية لـوادي السيليكون في الولايات المتحدة لم تُكلل بالنجاح في دول أخرى عبر العقود الثلاثة الماضية، رغم محاولات فرنسا وبريطانيا وألمانيا وحتى بعض الدول العربية.
ويُقر الرفاعي بأنه “إذا كان هناك أي دولة في العالم ممكن أن تكرر نجاح وادي السيليكون فستكون الصين القادرة على ذلك”، نظراً لقوتها الاقتصادية واستثماراتها. إلا أنه يستبعد نجاح “تأشيرة كي”، بل يتوقع لها الفشل لعدة أسباب جوهرية هي:
- أولاً، يبرز العائق اللغوي، حيث يشير إلى أن اللغة الصينية صعبة والصينيين لا يتحدثون الإنجليزية في المجالات التكنولوجية، مما يخلق صعوبة كبيرة.
- ثانياً، يرى أن قوة الجذب لـوادي السيليكون لا تزال الأقوى؛ فإذا أُتيحت الفرصة أمام العلماء المبتكرين للاختيار بين العمل في أميركا والصين، فإن “معظمهم سيتجه إلى وادي السيليكون بسبب نجاحه”.
- ويُرجع ذلك أيضاً إلى أن السوق الاستثماري الأميركي واسع ويتميز بـسيولة كبيرة ومليارات جاهزة للاستثمار.
ويختتم الرفاعي حديثه بتأكيد أن هذه التجربة الصينية “لن تنجح”، وأن الابتكارات والتكنولوجيا الصينية “ستظل صينية ولن يكونوا ناجحون في جذب العقول الابتكارية كما يريدون”.
“إتش-بي 1” فقدت بريقها و”كي” تغير الموازين
بينما يرى الخبير الاقتصادي على حمودي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن تأشيرة “إتش-بي 1″ فقدت بريقها، وذلك يعود لعدة أسباب أبرزها أنه يتم قبول نحو 85 ألف فرصة عمل سنوية مقابل أكثر من 423 ألف طلب تسجيل مؤهل – بمعدل قبول 20 بالمئة مما يؤدي إلى رفض أكثر من 300 ألف متخصص من ذوي المهارات العالية سنوياً، بمعنى نظام (اليانصيب) هو ما يحدد مستقبل المتقدمين للتأشيرة، وليس خبراتهم، فضلاً عن تجاوز الرسوم 100 ألف دولار لأصحاب العمل الأميركيين، مما يُصعّب على الشركات الناشئة والصغيرة الحصول على التأشيرة تماماً”.
كما أنه قد يستغرق طلب التأشيرة أكثر من 6 أشهر، وتغيير الوظيفة يعني إعادة بدء العملية برمتها، بحسب تعبيره.
وأضاف حمودي: أما الآن لدينا الآن “تأشيرة كي” الصينية، التي ستطلق مع بداية أكتوبر 2025 وهي مُوجهة لعلم الخلايا الجذعية والباحثين ورواد الأعمال، أي لا يوجد حظ في القبول ولا متطلبات رعاية الشركات، ولا اختناقات تعسفي، فقط تقديم الطلب بشكل مستقل، أو إطلاق مشروعاً ناشئًا، أو الانضمام إلى مختبر، وكل ذلك بشروط صاحب الطلب الخاصة، وتنتهي عملية مراجعة الطلب في غضون أيام (وليس أشهر)، مع توفير خيارات متعددة الدخول والسنوات، ومسار للاستقرار.
كما أشار إلى أن مراكز الابتكار الإقليمية تضيف إعانات سكنية، ومنحاً بحثية، وتمويلاً للشركات الناشئة لجذب المواهب العالمية. وقال “لذا، سنشهد تحولاً عالمياً في تنقل المواهب”.
وذكر أن الطلب على برامج الدراسات العليا في الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة انخفض بنسبة 25بالمئة خلال عام واحد، بينما ارتفع الطلب على المواهب التقنية الدولية والشهادات العليا في الصين بنسبة 88 بالمئة، وأن 74 بالمئة من تأشيرات “إتش-بي 1” تُمنح للمواطنين الهنود، و11.7بالمئة للمتقدمين الصينيين، لافتاً إلى أن تأشيرة “كي” الصينية قد تُغير الموازين أسرع مما يُتوقع.
وأوضح حمودي أن مسارات “تأشيرة كي” تمثل بالنسبة لحاملي الدكتوراه الصينيين والمواهب التقنية العالمية في الخارج، زخماً حقيقياً لعكس هجرة الأدمغة.
وختم الخبير الاقتصادي حمودي بأن سباق المواهب لا ينتظر أحداً، مؤكداً أنه مع ازدياد طوابير الانتظار في واشنطن، تفتح تأشيرة “كي” الصينية الباب بشكل سريع وسلس ومُركز على المستقبل.
