مرشح تحالف “ليبري” اليميني خورخي كيروغا في لاباز، 17 أغسطس 2025 (Getty)
شهدت بوليفيا تحولا سياسيا لافتا بعد نحو عقدين من سيطرة حزب “الحركة نحو الاشتراكية” (MAS) على المشهد السياسي. ففي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت مساء الاثنين الماضي، تأهل مرشحان من التيار اليميني إلى جولة الإعادة، بينما مُني الاشتراكيون بأسوأ نتائجهم منذ وصولهم إلى السلطة عام 2006.
وجاءت المفاجأة الأكبر مع تقدم رودريغو باز، مرشح الحزب الديمقراطي المسيحي، الذي حصل على 32.1% من الأصوات، متقدما بفارق مريح على أقرب منافسيه. ويُعد هذا التحول مفاجئا، نظرا إلى أن الحزب لم يكن يُعد قوة سياسية مؤثرة في بوليفيا، وكانت التوقعات تمنحه بالكاد 3% من الأصوات. يقول المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية كارلوس سالاس ليند إن هذه النتيجة “مفاجئة للغاية”، وتدل على تحوّل جذري في المزاج الانتخابي، حيث بات حزب لم يكن له دور يذكر يتصدر المشهد السياسي في البلاد.
أسباب تراجع الاشتراكيين
اللافت أن نسبة 3% التي كانت متوقعة لباز، هي نفسها التي حصل عليها حزب MAS الحاكم سابقا، في تراجع صادم مقارنة بنتائج الانتخابات السابقة التي كان يفوز فيها الحزب من الجولة الأولى بنسب تتجاوز 50%.. ويُعزى هذا الانهيار إلى أسباب عدة، أبرزها الصراع الداخلي بين الرئيس الحالي لويس آرسي والرئيس السابق إيفو موراليس، الشخصية التاريخية لليسار البوليفي، والذي كان قد دعا أنصاره إلى التصويت بورقة بيضاء بعدما رفضت المحكمة الدستورية ترشيحه بسبب تجاوزه الحد الدستوري للفترات الرئاسية، ما أدى إلى تسجيل نسبة أصوات بيضاء بلغت 19.1%، بحسب تقارير محلية. وتسبب الانقسام بين آرسي، الذي يُعتبر أكثر براغماتية، وموراليس، المتمسك بخطابه اليساري الأيديولوجي، في تفكك القاعدة الشعبية للحزب، وخلق حالة من التشتت والشك لدى الناخبين.
كما أن تآكل الثقة الناتج عن طول فترة الحكم (نحو 20 عاما)، إلى جانب تفاقم الأزمات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية، ساهم في تسريع التراجع. فقد أصبح الخطاب الاشتراكي، في أعين كثير من البوليفيين، منفصلا عن الواقع، في وقت يبحث فيه المواطنون عن “حلول عملية، لا شعارات ثورية”.
صعود جيل جديد وخطاب وسطي
جيل جديد من البوليفيين، خصوصا في المدن، بات يبحث عن خطاب عملي تقدمي يواكب قضايا العصر، مثل البيئة، التكنولوجيا، وحقوق الإنسان، بدلا من الشعارات الأيديولوجية الجامدة. ويُعتبر صعود اليمين المعتدل، ممثلا في رودريغو باز، ترجمة لهذا التغيير. فقد نجح في تقديم خطاب إنساني واجتماعي متوازن، منفتح على الاستثمار الأجنبي، دون تبني نهج ليبرالي متطرف، وهو ما جذب قطاعات واسعة من الناخبين الذين سئموا الاستقطاب الحاد.
مستقبل اليسار في بوليفيا وأميركا اللاتينية
رغم الخسارة الكبيرة التي مُني بها اليسار البوليفي، لا يمكن القول إنه انتهى، إذ إن تياراته لا تزال حاضرة بقوة، خصوصا في المناطق الريفية وبين السكان الأصليين، إلا أن استمرار الانقسام القيادي والصراعات الشخصية قد يؤدي إلى تآكل ما تبقى من شعبية الحزب ما لم يُبادر إلى تجديد ذاته، سواء عبر وجوه قيادية جديدة أو برامج اجتماعية واقعية وقابلة للتنفيذ.
على مستوى القارة، لا تزال أميركا اللاتينية ساحة تنافس مفتوح بين اليمين واليسار. ففي مقابل صعود اليمين الشعبوي كما في الأرجنتين مع خافيير ميلي، تشهد دول أخرى مثل البرازيل وتشيلي وكولومبيا وجود حكومات يسارية تواجه تحديات متزايدة تتطلب مراجعة وتحديثا في الخطاب والممارسة.
ويُجمع محللون على أن بقاء اليسار مرتبط بقدرته على التحول من الأيديولوجيا إلى الأداء، ومن الشخصنة إلى المؤسسات. اليسار في أميركا اللاتينية متجذر في ثقافات التحرر الوطني والمطالب الاجتماعية، لكنه بات بحاجة إلى شفافية وكفاءة وتجديد في الخطاب لمواجهة صعود ما يُسمى بـ”الوسط الجديد”، الذي يجمع بين عقلانية الاقتصاد وواقعية السياسات الاجتماعية.
جولة الإعادة: ما الذي ينتظر بوليفيا؟
من المقرر أن تُنظم جولة الإعادة في 19 أكتوبر/تشرين الأول بين رودريغو باز ومرشح تحالف “ليبري” اليميني خورخي كيروغا، الذي حصل على 26.9% من الأصوات. وتشير معظم التوقعات إلى أن باز هو الأوفر حظا، خصوصا بعد إعلان مرشحين آخرين من اليسار والوسط دعمهم له في مواجهة كيروغا. في حال فوز باز، فإن بوليفيا ستكون على أعتاب مرحلة سياسية جديدة، ربما تتسم بالاستقرار والانفتاح الاقتصادي، بعيدا عن الاستقطاب الحاد الذي طبع الحياة السياسية في العقدين الماضيين.