الرئيسية

اتحاد الشغل في تونس والنضال "بالصمت والصبر"



عرفت الساحة السياسية في تونس، منذ الاستقلال، ديناميكيّة خاصة ارتبطت بوجود ثلاثة أطراف كبرى ظلّت تتحكّم في موازين القوى عقوداً طويلة. السلطة بما تمثّله من أجهزة الدولة ومؤسّساتها كانت دائماً القطب الأوّل في هذا المثلث. وإلى جانبها ظهرت حركة النهضة بوصفها التعبير السياسي الأقوى عن التيار الإسلامي، وقد فرضت نفسها منذ ثمانينيات القرن الماضي فاعلاً لا يمكن تجاوزه، رغم فترات القمع والتضييق التي تعرّضت لها. والقطب الثالث الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي لم يكن مجرّد نقابة مهنية، بل تحوّل إلى لاعب سياسي من الطراز الأوّل، وأصبح أحد مكوّنات الهُويّة السياسية الوطنية. ظلّ هذا المثلث، عقوداً، ينتج التوازنات والتجاذبات والصراعات، حيث إنّ تقارب طرفين كان يعني بالضرورة انزياح الثالث إلى موقع الخصومة والمواجهة، في علاقة متوتّرة لا تكاد تهدأ حتى تشتعل من جديد.

بعد الثورة التي أطاحت نظام زين العابدين بن علي في يناير/ كانون الثاني 2011، تجدّدت هذه القاعدة التاريخية، ولكن بأشكال أكثر حدّة، إذ تحوّلت حركة النهضة إلى القوّة السياسية الأولى بعد الانتخابات، وبالتالي ولأوّل مرّة منذ نشأتها تحوّلت من المعارضة الى السلطة، ودخلت في تحالفاتٍ كثيرة، فيما ظلّ الاتحاد يراقب ويضغط من موقعه المركزي. ورغم فترات الحوار، لم تستقرّ العلاقة بين هذه الأطراف قط على صيغة توافقية دائمة، بل بقيت متأرجحةً بين الهدوء التكتيكي والمواجهة المكشوفة. وقد برز ذلك بوضوح خلال الأزمة السياسية التي أعقبت اغتيالات 2013، حيث لعب الاتحاد دوراً محوريّاً في الخروج من عنق الزجاجة، لكنه، في الوقت نفسه، لم يخف عداءه القديم لـ”النهضة”، ولم يتردّد في الانحياز إلى خياراتٍ بدت أقرب إلى الإجهاز عليها ولو كان ثمن ذلك إنهاء التجربة الديمقراطية ووأد الثورة التونسية الوليدة.

ثم جاءت محطة 25 يوليو (2021) لتخلط الأوراق من جديد. أعلن الرئيس قيس سعيّد تجميد البرلمان وحلّ الحكومة واحتكار الصلاحيات، فوجدت “النهضة” نفسها مستهدفةً مباشرة، حيث جرى اعتقال قياداتها وتهميش دورها بشكل غير مسبوق، فهي حالياً شبه غائبة عن المشهد نتيجة السجون والانشقاقات. ولم يتأخّر الاتحاد، من جهته، في مباركة هذه الخطوة، بل إنّه كان من أبرز الأطراف التي دعت إليها قبل وقوعها، على أمل أن تفتح أمامه المجال لتوسيع نفوذه السياسي وضمان موقع في ترتيبات الحكم الجديد. غير أنّه لم يحصد أيّ مكاسب ملموسة، وسرعان ما تحوّل إلى حالةٍ من المهادنة التي برّرها أمينه العام، نور الدين الطبوبي، في البداية بأنها “نضال بالصمت” ووصفها أخيراً الناطق الرسمي باسمه “بالنضال بالصبر”.

إلغاء المنحة السنوية سيضع الاتحاد في مأزق وجودي حقيقي، إذ من الصعب أن يتصوّر استمراره فاعلاً مركزياً من دون تمويل مضمون

ولكن هذه المهادنة لم تَحُل دون أن تمضي السلطة في سلسلة إجراءات تستهدف الاتحاد مباشرة، فقد أوقفت العمل بنظام التفرّغ النقابي الذي ظلّ يتمتّع به عدد كبير من النقابيين منذ فجر الاستقلال، وهو امتياز تاريخي لم تجرؤ أي سلطة سابقة على المساس به. وكان ذلك بمثابة ضربة قوية لمكانة الاتحاد ولمصالح قياداته والدوائر المقرّبة منهم، إذ أخرجت هذه الخطوة كثيرين من صمتهم وأثارت استياءً واسعاً داخل الهياكل النقابية. إلا أنّ الأخطر من ذلك التوجّه المُعلن للسلطة نحو خطوة أكثر قسوة، تتمثّل في إلغاء الاقتطاع الشهري المباشر من أجور المنخرطين، وهو شريان التمويل الأساسي للاتحاد. فإذا كانت الخطوة الأولى قد أربكت قيادة المنظمة وأظهرت هشاشتها، فإنّ الخطوة الثانية، إذا نُفّذت، قد تدفعها إلى مواجهة مع السلطة لا تحتملها. إلى جانب ذلك، يلوح في الأفق تهديدٌ آخر لا يقلّ خطورة، حرمان الاتحاد من المنحة السنوية التي يحصل عليها من موازنة الدولة، والتي تفوق مليوناً ونصف المليون دولار، والتي تُصرف له في بداية شهر يناير/ كانون الثاني من كلّ عام حتى قبل الوزارات والمؤسّسات الحكومية. الطابع الاستثنائي لهذه المنحة جعلها إحدى الركائز المالية للنقابة، وإلغاؤها سيضعها في مأزق وجودي حقيقي، إذ من الصعب أن يتصوّر استمرارها فاعلا مركزيا من دون تمويل مضمون.

في ظلّ هذا الوضع، يجد الاتحاد العام للشغل نفسه أمام أزمة خانقة، كما تجد حركة النهضة نفسها أمام معضلة استراتيجية: هل تقف إلى جانبه في هذه المعركة ضدّ السلطة، أم تكتفي بمراقبة المشهد من بعيد؟ هذا السؤال يتردّد بقوّة بين المتابعين خاصة بعد تسرّب طلب أو طمع الاتحاد في مساندة النهضة لتحرّكه المرتقب يوم 21 أغسطس/ آب الجاري، غير أنّ الإجابة عن هذا السؤال ليست يسيرة. فالعلاقة بين “النهضة” و”الاتحاد” لطالما اتسمت بعدم الثقة والصدام المستمر، فالاتحاد يرى في “النهضة” خصمه التاريخي الحقيقي، فيما تعتبر قواعد الحركة أنّ الاتحاد كان أحد أهم الأطراف التي ساهمت في إفشال تجربتها في الحكم بعد 2011. وحتى في السنوات الأخيرة، لم يتردّد الاتحاد في مهاجمة “النهضة”، ولم يتوان عن قطع الطريق عن تحرّكات سياسية معارضة هي من منظميها، كما حدث في مسيرة 25 يوليو الماضي، حين رفض أن تنطلق من أمام مقره بساحة محمد علي في العاصمة، وهو ما اعتبره كثيرون طرداً سياسيّاً علنيّاً لجبهة الخلاص وللحركة.

المتعاطفون مع الاتحاد في محنته الحالية يشكّكون في صدقية مواقفه، ويرون أنّه متى استعاد قوّته لن يتردّد في الانقلاب على أي حليف مُحتمل

من هنا يمكن القول إنّ “النهضة” أمام خيارين كلاهما صعب: الأول النأي بنفسها عن الصراع القائم بين السلطة والاتحاد، واتخاذ موقع المتفرّج الذي يراقب الأحداث من الربوة. يذكّر أنصار هذا الخيار بتاريخ الاتحاد ويعتبرونه لم يعد نقابة اجتماعية بقدر ما أصبح أداة سياسية متقلّبة، كثيراً ما تقاطعت مصالحه مع السلطة ضدّ خصومها. يرى هؤلاء أنّ الاتحاد لم يكن يومًا سندًا للديمقراطية ولا للحريات، بل كان أداة تعطيل وإجهاض للتجربة التونسية الوليدة. ومن ثَمّ، فإنّ الوقوف إلى جانبه اليوم لن يجلب للبلاد أولًا وللنهضة ثانيًا سوى مزيد من الخسائر. ويقدّر هؤلاء أنّ الحركة لا يمكن أن تبقي وقوداً لكلّ المعارك، أو كما يقول بعضهم “لسنا كباش نطيح” حسب التعبير التونسي.

الخيار الثاني هو التعامل مع “الاتحاد” بوصفه مؤسّسة وسيطة، رغم عيوبها وأخطائها، يمكن أن تلعب دوراً في الحفاظ على التوازنات الوطنية وحماية بعض الحقوق والحرّيات. يعترف المدافعون عن هذا الرأي بأنّ الاتحاد ارتكب أخطاء جسيمة، لكنهم يحذّرون من خطورة القضاء عليه بالكامل، لأن ذلك سيترك الساحة خالية أمام السلطة المُنفردة بكلّ الصلاحيات. غير أن هذا الخيار يبدو ضعيف الحجّة داخل “النهضة”، حيث يسود شعور واسع بين قواعدها أنّ الاتحاد شريك في الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه البلاد. وأنهم واعون أنه ولو كان هذا الموقف مبدئياً بالأساس، فانّ الجهر به والدفاع عنه خطأ سياسي، ليس فقط مخالف لتوجّه الأغلبية داخل الحركة، لكنه أيضا مُخالف للشعور الشعبي العام الحانق عن الاتحاد، والذي يعتبره مسؤولًا عن تعطيل قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والنقل، من دون أن يقدّم أيّ حلول حقيقية للمواطن التونسي.

تعمّق هذه المعضلة أزمة ثقة عامة بين جميع الأطراف السياسية في تونس، وهي أزمة لم تفلت منها حتى القوى التي يُفترض أن تكون في موقع التضامن، فالمتعاطفون مع الاتحاد في محنته الحالية يشكّكون في صدقية مواقفه، ويرون أنّه متى استعاد قوّته لن يتردّد في الانقلاب على أي حليف مُحتمل وسيُغازل السلطة ثانية ويطلب ودّها ويمكن أن يرتمي في أحضانها. وهو ما يجعل النهضة أكثر حذراً في الاقتراب منه، لأنها تدرك أنه قد يوجّه سهامه نحوها مجدّدًا إذا سنحت له الفرصة.

تبدو حركة النهضة أقرب إلى خيار النأي بنفسها عن هذا الصراع، بحكم التاريخ والصراع المُزمن مع الاتحاد

إلى جانب أزمة الثقة، تبرز مسألة القدرة الفعلية على المواجهة. فهناك من يرى أن ما يحدث بين الاتحاد والسلطة لا يتجاوز حدود المناوشات، ولن يرقى إلى صدام حقيقي، باعتبار أنّ السلطة تمتلك من الملفات والوسائل ما يكفي لإرباك قيادة الاتحاد وجرّها سريعًا إلى ردهات المحاكم متى أرادت ذلك. ومع ذلك، يذهب ملاحظون ومتابعون إلى أنّ السلطة تحسب ألف حساب للاتحاد، وأنها في أعلى هرمها لا تستهين به ولا بإمكانية ردّة فعله، خاصة حين يُحشر في الزاوية. وخير دليلٍ على ذلك ما ورد في بيان الهيئة الإدارية الأسبوع الفارط، حيث أكّد الاتحاد أنّ هذه الهيئة باقية في حالة انعقاد دائم لمتابعة المستجدات واتخاذ القرارات، وصولًا إلى تحديد موعد الإضراب العام الذي كان قد أقرّه المجلس الوطني في سبتمبر/ أيلول 2024. وفي المقابل، يفتقد الاتحاد اليوم القدرة على تحريك الشارع كما كان يفعل في السابق. فالجماهير التي ساندته في لحظات مفصلية إنما فعلت ذلك في الغالب بدافع مصالح ظرفية، لا عن إيمان راسخ بدوره. كما أنّ الواقع الاجتماعي والاقتصادي المُعقّد يجعل من الصعب تعبئة الناس دفاعًا عن مؤسسة يتهمونها بأنها لم تجلب لهم سوى الإضرابات والتعطيل.

من هنا، يبدو أنّ الاتحاد التونسي العام للشغل محكوم بمحدودية خياراته، فهو من جهة عاجز عن تحدّي السلطة مباشرة لأنه يخشى أن تعصف به ملفات الفساد والاختلالات التي يمكن أن تُفتح ضدّه، ومن جهة ثانية غير قادر على حشد شارع لم يعد يرى فيه أملًا. لذلك قد يختار “الاتحاد” الاستمرار في سياسة “الصمت والصبر”، لا عن اقتناع وإنما عن اضطرار. وفي المقابل، تبدو حركة النهضة أقرب إلى خيار النأي بنفسها عن هذا الصراع، بحكم التاريخ والصراع المُزمن مع الاتحاد، وبحكم قناعتها بأنه لن يصطف معها في أيّ حال من الأحوال، حتى لو ساعدته في محنته.

هكذا نجد أنفسنا أمام مشهد سياسي مُعقّد: سلطة تسعى إلى إضعاف الاتحاد تدريجيًا عبر أدوات مالية وقانونية صارمة، اتحاد يحاول الإفلات من الموت السريري من دون أن يمتلك القوّة الكافية للمواجهة، وحركة نهضة عالقة بين خيار الحياد والحسابات البراغماتية، لكنها في النهاية غير قادرة على أن تكون سندًا لاتحاد كان في نظرها ولا يزال أحد أهم معاول هدم تجربتها الديمقراطية.

يختزل هذا المثلث المتوتّر عمق الأزمة التونسية الراهنة، فبدل أن تنشغل الأطراف الكبرى بالعمل على حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تخنق المواطنين، تواصل صراعاتها القديمة المتجدّدة. والشارع التونسي، الذي فقد كثيراً من الثقة في هذه القوى، يراقب بصمت، مترقّباً لحظة قد ينفجر فيها الغضب الشعبي في وجه الجميع، حين يدرك أنّ لا أحد له القدرة على إنقاذه من معاناته اليومية.