في ظل تصاعد الحملات الأمنية والجدل الشعبي ودعاوى قانونية تطالب الحكومة بحجب تطبيق تيك توك في مصر، تقف المنصة الصينية الشهيرة عند مفترق طرق بين الحجب الكامل أو ضبط المحتوى ومحاولة التوفيق بين حرية التعبير و”حماية القيم” وفق مصطلحات الحكومة المصرية.
وأكّد مصدر مطلع في وزارة الاتصالات المصرية لـ”العربي الجديد” أن “لا نية إطلاقاً لحجب تطبيق تيك توك”، موضحاً أن “الاجتماعات الدورية والمناقشات لا تتوقف بين مسؤولي الوزارة والقائمين على هذه المنصات داخل مصر، بهدف ترشيد المحتوى ومنع ما يهدد قيم المجتمع وأسس الدولة”. بدوره، قال عضو اللجنة التشريعية والدستورية في مجلس النواب، عاطف المغاوري، إن “الحجب ليس الحل، لأن هناك دائماً بديل، واللجوء للمنع والحظر ليس الطريق الأمثل لمعالجة هذه الأمور”. أضاف المغاوري في تصريحات إعلامية أن “الحل هو محاسبة المخالف بالقانون، لأن التطور التكنولوجي والعلمي يجعل من الصعب علينا حجبه أو منعه”.
ومن المقرر أن ينظر مجلس الدولة في دعوى قانونية تطالب بحجب التطبيق في 8 سبتمبر/أيلول المقبل. في حالة موافقة المجلس الذي يمثل “السلطة العليا للقضاء الإداري في الدولة”، فإن قراره سيكون ملزماً للحكومة، ومن يمثلها في وزارة الاتصالات وأجهزة الأمن بفرض الحجب بقوة القانون.
ملاحقة مشاهير “تيك توك”
تواصل وزارة الداخلية وأجهزة الرقابة السيبرانية، حملات توقيف وملاحقة مشاهير على “تيك توك”، واتهمت عدداً منهم بارتكاب الفاحشة وغسل الأموال، إضافةً إلى مزاعم متعلقة بمخدرات وجدت أثناء مداهمة منازلهم، وسط جدل مجتمعي حول مدى جدية هذه التهم. واستهدفت الحملة الأمنية الموسعة أخيراً عدداً من مشاهير “تيك توك”، وسط تساؤلات عن دوافعها. وبينما ربطها البعض بمزاعم عن غسيل أموال وتجارة أعضاء، رأى آخرون أنها محاولة من السلطة لصرف النظر عن أزمات داخلية وخارجية تعصف بالبلاد. ورغم أن هذه الحملات ليست جديدة، فإن اللافت حالياً هو حصولها على دعم شعبي وزيادة عدد الموقوفين وحجم التهديدات شبه الرسمية التي أوحت بإمكانية الحجب الجزئي أو الكلي للمنصة إذا لم تلتزم بالقيم والآداب العامة. كما وجهت اتهامات بتحقيق هؤلاء أرباحاً طائلة مكنتهم من الثراء السريع خلال فترات وجيزة.
دراسة تحذر من مخاطر التطبيق
رأى خبراء تقنيون أن “تيك توك” وغيرها من التطبيقات والمنصات صارت أحد الأدوات التجارية والتسويقية المعتمدة، ما يجعل ضرر حجبها أكبر من نفعه، وبالتالي من مصلحة الحكومة إدارة الأزمة بحكمة، وملاحقة المخالفين من صناع المحتوى بعيداً عن الحظر الشامل. وأشارت بيانات منصة داتا بورتال أن عدد مستخدمي “تيك توك” البالغين في مصر (فوق 18 عاماً) وصل إلى 41.3 مليون شخص، منهم 64.2% من الذكور و35.8% من الإناث، بزيادة 25.4% عن العام السابق. سبق التوقيفات الأخيرة بحق مؤثري “تيك توك” صدور دراسة عن المركز القومي للدراسات الاجتماعية والجنائية حول التطبيق وتأثيره على المجتمع، أظهرت أن 94.6% من مستخدمي التطبيق يعتقدون أن له تأثيراً سلبياً على الصحة النفسية، مع زيادة مشاعر القلق والتوتر وفقدان التركيز بسبب الإفراط في الاستخدام. كما أوضح 33% من المراهقين أن سلوكهم تأثر سلباً بمشاهدة محتوى مسيء أو يحض على العنف، فيما أشار 63% من أولياء الأمور إلى صعوبة متابعة المحتوى الذي يشاهده أبناؤهم، بسبب سرعة تدفق المقاطع القصيرة وصعوبة السيطرة عليها. وشدّدت الدراسة على أهمية الحوار والتربية الرقمية، مقترحة الحظر الجزئي أو تطوير خوارزميات تمنع المحتوى المنافي للأخلاق، إضافة إلى توجيه المراهقين وتفعيل الرقابة على المحتوى المسيء أو العنيف.
سيطرة شبه مستحيلة
أكّد العميد السابق لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، حسن عماد مكاوي، أن السيطرة على المنصة “صعبة للغاية فهو تطبيق عالمي، ولا يمكن ضبطه إلا بالحجب الكامل واستبداله بنسخة وطنية، على غرار ما فعلته روسيا”. لكنه استبعد إمكانية حدوث ذلك في مصر. وأضاف في حديث لـ”العربي الجديد”: “نحن مستهلكون للتكنولوجيا ولسنا منتجين لها، ولا نملك القدرة على فرض خوارزميات تحترم قيم المجتمع”، متابعاً: “لا توجد وسيلة للسيطرة إلا عبر الحل الأمني وملاحقة من يقدم محتوى منحرفاً أو مخالفاً للقيم”. كما عزا شعبية “تيك توك” الواسعة إلى “إغلاق المجال العام وعجز وسائل الإعلام عن تقديم محتوى جذاب يمثل قطاعات واسعة، ما دفع الناس للبحث عن حرية أكبر ولو كانت بلا مسؤولية”.
من جهته، رأى أستاذ الاجتماع في الجامعة الأميركية في القاهرة، طه أبو حسين، أن “أي تطبيق عالمي يبث ثقافات وقيم متباينة يجب أن يخضع لرقابة وضوابط صارمة، تصل أحياناً إلى الحجب الجزئي أو الكلي إذا تعذّر تعديل مساره”، مشيراً إلى أن دولاً كثيرة لجأت لهذا الإجراء لدرء المخاطر. أضاف: “هناك معلومات سامة ومغلوطة على التطبيق، لكن يوجد محتوى نافع، لذا يجب أن يكون التدخل مدروساً عبر القانون والحملات الأمنية”. وحمّل أبو حسين، في حديثه مع “العربي الجديد”، الإعلام الرسمي مسؤولية انتشار هذه التطبيقات “في ظل غياب المحتوى الهادف سواء الجاد أو الترفيهي، وترك الساحة لصناعة عقليات تافهة على حساب الصحافة والسينما والتلفزيون”.
رأي أبو حسين اتفق معه الأكاديمي والإعلامي حسن علي، الذي اعتبر أن “الأزمة ليست في التطبيق ذاته، بل في غياب منظومة إعلامية متكاملة قادرة على منافسة المحتوى الرقمي الجذاب”. أضاف: “عندما يفشل الإعلام التقليدي في تقديم محتوى متنوع وحر، ينجذب الجمهور إلى المنصات التي تمنحه حرية أكبر، حتى لو كانت تحمل مخاطر”. ورأى أن الحل لا يكمن فقط في فرض القيود، بل في “إعادة بناء الثقة بين المواطن ووسائل الإعلام، وفتح المجال أمام الابتكار في المحتوى المحلي، وتوفير بيئة تشجع على الإبداع وتحترم في الوقت ذاته القيم الأخلاقية”.
ونبّه الحقوقي عادل معوض من أن حملات الملاحقة الأمنية لصناع المحتوى على “تيك توك” تطرح إشكالية قانونية وأخلاقية في آن واحد، إذ اعتبر أن “المسألة لا تتعلق فقط بخرق القوانين أو الأعراف الاجتماعية، بل بمدى احترام الحق في التعبير عن الذات ضمن الحدود التي يضعها القانون”، موضحاً: “في حالات كثيرة، يوسّع تفسير النصوص القانونية بشكل يسمح بتجريم محتوى قد يراه البعض مجرد رأي أو أسلوب ترفيهي، ما يفتح الباب أمام تقييد حرية التعبير”. وأشار معوض إلى أن منصات مثل “تيك توك” تتيح للأفراد فرصاً اقتصادية لا يمكن إنكارها، خاصةً في ظل البطالة وغياب البدائل، محذراً في حديثه لـ”لعربي الجديد” من أن الحجب أو التضييق غير المدروس قد يدفع المستخدمين إلى البحث عن قنوات بديلة أكثر خطورة أو أقل التزاماً بمعايير السلامة الرقمية.
معركة للدفاع عن القيم أم للسيطرة؟
يتجاوز الجدل الدائر حول “تيك توك” في مصر حدود منصة رقمية إلى مساحة أوسع من الصراع بين القيم التقليدية وموجات العولمة الرقمية. وبينما تؤكد الحكومة أن هدفها حماية المجتمع من الانحلال وحماية القيم، يرى معارضون أن ما يحدث يعكس رغبة في السيطرة على الفضاء العام وفرض خطاب رسمي موحد. وتكشف الأرقام أن التطبيق صار جزءاً من الحياة اليومية لملايين المصريين، وأن أي محاولة لحجبه أو تقييده كلياً ستصطدم بعقبات تقنية واقتصادية واجتماعية. وفي المقابل، تتزايد المطالب بوضع أطر قانونية واضحة تحدد المسؤوليات وتحمي في الوقت ذاته حق الأفراد في التعبير والإبداع.