“لد زبلين” في جلسة تصوير عام 1968 (دِك بارنات/ Getty)
في عالم الأفلام الوثائقيّة الموسيقيّة، ثمة لحظات نادرة يتحول فيها الشريط السينمائي إلى بوابة زمنية، تنقل المشاهد إلى قلب اللحظات التي صنعت التاريخ. “ميلاد لد زبلين” (Becoming Led Zeppelin) الصادر العام الحالي، ليس مجرد سيرة ذاتية للفرقة الأسطورية، بل هو جزء من تقليد سينمائي يحاول التقاط روح الفرق الموسيقية التي غيرت العالم. مثلما فعلت أفلام مثل The Beatles: Get Back (2021) وAmy (2015) عن إيمي واينهاوس، وBohemian Rhapsody (2018) عن فرقة “كوين”، فإن “ميلاد لد زبلين” يقدم تجربة غامرة تضع المشاهد في مركز الإبداع والفوضى والمجد الذي عاشته الفرقة.
لكن ما الذي يجعل هذه الأفلام ناجحة؟ ولماذا ينجح بعضها في نقل “الأسطورة” بينما تفشل أخرى؟ الإجابة تكمن في القدرة على تجاوز السرد التقليدي والغوص في العمق النفسي والاجتماعي للفرقة، مع الحفاظ على الإرث الموسيقي الذي جعلها خالدة. العمل من إخراج البريطاني برنارد ماكماهون (Bernard MacMahon)، وهو يتبع هذا النهج ببراعة، ما يجعله يقف جنباً إلى جنب مع أهم صانعي الأفلام الوثائقية الموسيقية. الفيلم حصل على موافقة رسمية من أعضاء الفرقة الباقين على قيد الحياة (جيمي بيج وروبرت بلانت وجون بول جونز)، وهذه تمثل المرة الأولى التي يوافق فيها أعضاء الفرقة على مشاركة سرديتهم الشخصية بشمولية، ما يمنحنا نافذة نادرة على اللحظات الأولى التي شكلت أسطورة لم تتكرر.
يبدأ الفيلم بسياق تاريخي مؤثر، يعود إلى طفولة الأعضاء الأربعة في بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كانت أنقاض المباني وتبعات التقشف تشكل خلفية حياتهم اليومية. هنا، يبرز فهم المخرج ماكماهون لكيفية تحول هذه الظروف القاسية إلى وقود إبداعي. نرى أولاً جيمي بيج، الطفل المعجزة، الذي ظهر على التلفزيون وهو يعزف مع فرقة “سكيفل” في سن الـ13، ثم تحوله إلى عازف جلسات مطلوب، إذ شارك في تسجيلات أيقونية مثل أغنية Goldfinger لشيرلي باسي. بعدها، يظهر جون بول جونز ابن عائلة فودفيل، الذي تحول من عازف جلسات إلى منسق موسيقي لفنانين مثل لولو ودونوفان. ثم روبرت بلانت، الشاب الوسيم الذي كان على وشك أن يصبح محاسباً قانونياً قبل أن تغير موهبته الصوتية الاستثنائية مساره الشخصي ومسار الفرقة. وأخيراً جون بونهام، الطبال الخجول الذي كانت زوجته تحذره من التعاون مع صديقه بلانت لأنه كارثة، على حد قولها.
المخرج ماكماهون، مثل بيتر جاكسون في فيلم Get Back، يستخدم تقنيات ترميم متطورة لإحياء اللقطات القديمة، ما يجعل المشاهد يشعر وكأنه حاضر في تلك اللحظات التاريخية. هناك مشهد مؤثر في “ميلاد لد زبلين” يستمع فيه الأعضاء الباقون على قيد الحياة إلى تسجيل نادر لجون بونهام، وهو ما يشبه المشاهد العاطفية في فيلم The Beatles: Get Back، إذ يرى الجمهور تفاعل “ذا بيتلز” بعد سنوات من الفراق. يلتقط الفيلم اللحظة السحرية في أغسطس/آب من عام 1968، عندما اجتمع الأربعة لأول مرة في استوديو صغير في شارع جيرارد في لندن. المشهد الأكثر تأثيراً هو أداؤهم الأول لـTrain Kept A-Rollin، فيصور الفيلم كيف شعر الجميع بأنهم أمام تجربة تغير الحياة، ذلك كما يصفها بونهام في التسجيل الصوتي النادر الذي يعرض لأول مرة.
وجود لقطات أرشيفية لم تُرَ سابقاً كان الرافع الأساسي للعمل، فنشاهد أداء مبكراً للفرقة في مدرسة دنماركية عام 1968 وحفلات في ملهى فيلمور ويست في سان فرانسيسكو عام 1969 ومهرجان نيوبورت جاز؛ إذ أذهل بونهام عازفي طبول جيمس براون. هذا المزج للقطات الأرشيفية مع مقابلات حديثة بطريقة تفاعلية، فنرى الأعضاء وهم يشاهدون أنفسهم لأول مرة في بعض اللقطات، واستخدام تأثيرات بصرية مستوحاة من السايكيدليكا، خاصة في مشهد Whole Lotta Love الذي حول الفيلم إلى تجربة بصرية وصوتية فريدة من نوعها.
أحد أكثر الجوانب إثارة في العمل هو رفضه للسرد النمطي الذي تعتمده معظم الأفلام الوثائقية الموسيقية، فبدلاً من الاعتماد على خبراء أو معجبين لشرح أهمية الفرقة، يترك المخرج الفيلم، أي الموسيقى والأعضاء أنفسهم، يحكون القصة، هذا النهج يخلق إحساساً بالحميمية، كما لو أن المشاهد يجلس مع أعضاء الفرقة في غرفة المعيشة ويستمع إلى ذكرياتهم. جانب آخر مهم، حيث الكثير من الأفلام الوثائقية عن الفرق الموسيقية تركز على الجانب المظلم من الشهرة كالمخدرات والصراعات الداخلية والانهيارات، لكن “ميلاد لد زبلين” يفضل الاحتفال بالموسيقى نفسها ويتجنب الخوض في تفاصيل حفلات الفرقة المجنونة أو إدمان بيج على الهيرويين، وبدلاً من ذلك يركز على كيف غيرت موسيقاهم العالم.
يربط الوثائقي ببراعة بين صعود الفرقة وأحداث مثل هبوط أبولو 11 على القمر، مشيراً إلى كيف أعادت “لد زبلين” تعريف الحدود الموسيقية كما أعاد رواد الفضاء تعريف الحدود البشرية، ويغوص في العملية الإبداعية، ذلك عندما عرض جلسات التسجيل والعروض الحية والمشاهد التي يشرح فيها بيج كيف ابتكر الصدى العكسي في أغنية You Shook Me، أو كيف طور بونهام إيقاعاته الثورية حينها.
سيرة ماكماهون، المولود في إنكلترا من أصول أيرلندية، تفسر الكثير عن منهجه، فهو مهووس بالسينما الأميركية المبكرة والموسيقى الجذرية، وأسلوبه معروف برسوماته التفصيلية للـ”ستوري بورد” قبل التصوير، وتأثره بسينماتوغرافيا جون جيه ميسكول. علاقته مع أعضاء الفرقة عاملٌ جذري أيضاً، فهو من أقنع بيج بعد سنوات من الرفض بإنجاز الوثائقي، من خلال كتابة مجلد يحتوي على “ستوري بورد” كامل للفيلم، ما أظهر فهماً نادراً لرؤية الفرقة الموسيقية.
ينتهى الفيلم مع حفل ألبرت هول في 1970، وهذا توقيت مثير للجدل، نشعر وكأن هنالك فصلاً أوّل منقوصاً، خاصة مع تجاهل حقبة Led Zeppelin IV وStairway to Heaven، لكن السؤال الأهم: هل سيدخل “ميلاد لد زبلين” قائمة الأفلام الوثائقية الموسيقية العظيمة؟ الجواب ربما يكون نعم، لأنه مثل أسلافه، لا يكتفي بسرد القصة، بل يعيد إحياءها ويأخذ المشاهد ليعيش مغامرة الفرقة كما لو أنها تحدث الآن.