الرئيسية

اقتصاد الانتباه يسرق تركيز القارئ



رجل أمام لوحة “أمازن” للفنان الألماني أندرياس غورسكي، 2018 (Getty)

ربما لا نعرف الكثير عن الانتباه عبر مختلف العصور، وإذا ما كانت له علاقة خاصة بالثقافة والقراءة والروايات. لكن يمكن اعتبار هذا السؤال راهناً ومعاصراً أكثر من ذي قبل، إذ تستحوذ وسائل التواصل الاجتماعي على مساحة من الحياة اليومية لملايين البشر، وبلغ عدد مستخدميها نحو 5.41 مليارات مع بداية يوليو/ تموز 2025، أي ما يعادل 65.7% من إجمالي سكان العالم”. وهو ما يثير الاهتمام لدى القارئ والكاتب معاً، واللذين ينضمان بطبيعة الحال إلى هذا العدد الكبير، ويشكّلان جزءاً منه. فيطرح بعضهم سؤالاً من قبيل: هل هناك صراع بين الشاشات والصفحات حول جلب انتباهنا؟ 

يحيلنا هذا السؤال إلى تساؤلات أخرى من قبيل: هل انتباهنا سلعة؟ هل تسرقه وسائل التواصل؟ وفي النهاية: هل هناك ما يستدعي القلق إن غادرنا القراءة العميقة عبر الكتب والروايات إلى سلاسل الفيديوهات والمنشورات القصيرة؟ 

من اقتصاد الانتباه إلى تراجع القراءة

قدّم العالم الأميركي هربرت أ. سايمون (1916 – 2001)، مصطلح اقتصاد الانتباه لأول مرة عام 1969، وإن كانت مفاهميه تعود إلى مئات السنين، لكنه يشير في العصر الحديث إلى أن “وفرة المعلومات” في المجتمعات ما بعد الصناعية “تخلق فقراً في الانتباه”، وحاجة إلى توزيع هذا الانتباه بكفاءة بين الكم الهائل من مصادر المعلومات القادرة على استهلاكه.

ولاحقاً، ربَط الكاتب مايكل إتش. غولدهافر، الذي اعتزل الفيزياء النظرية بسبب رفضه تسخير العلم من أجل تطوير الأسلحة، هذا المصطلح بـ”تصاعد الدور المحوري للإنترنت في جذب الانتباه وقياسه وتوجيهه عبر الخوارزميات، وإمكانيات الوصول غير المحدود إلى المعلومات عموماً، ما جعل الويب العالمي يشكل نظاماً مستمراً من الإلهاء، بفعل فائض المحفزات القوية التي تتنافس على وقتنا وانتباهنا المحدود في ظل حياتنا اليومية باعتبارنا بشراً”.
 
لا يمكن قياس هذا المصطلح بصورة مطلقة، ولكن الأرقام العالمية تعكس صورته في مرآة الأدب والروايات، التي شكلت مادة للوعي والمتعة والسرديات المشتركة، وتبادل الرؤى بين القراء حول العالم عربياً وعالمياً لأجيال، فأحدث الاستطلاعات العالمية تشير إلى اهتمامات مستخدمي وسائل التواصل، التي تندرج بنسب عالية ضمن مجالات تتعلق بالتواصل مع العائلة والأصدقاء، ومعرفة الأخبار والاطلاع على أحدث التوجهات لشراء السلع، والعمل والتسلية والرياضة وغيرها، فيما لم تحتل القراءة الموجهة للأدب والروايات أيّ مكانة واضحة، رغم وجود كمّ كبير من الوسائل المتطورة، كالكتب الإلكترونية والمسموعة والمضمنة في بعض الفيديوهات، والأخرى المرفقة بشكل تفاعلي، وغيرها. 

الدماغ البشري مهيأ لاكتساب اللغة لكنه غير مبرمج على القراءة

في المقابل، تنتشر عالمياً مسألة تشتّت الانتباه وعدم القدرة على قراءة الكتب والأعمال الكلاسيكية، أو الحديثة ذات الكم والنوع، ما يظهر سرقة الانتباه وتسليعه، إذ  تنحدر القراءة كما عرفها كثيرون عبر عقود، وبالتالي، تنحدر القيم والأفكار والآثار الإيجابية التي ظلت تطرق أسماعنا حولها، وما زالت أصداؤها تتردد اليوم، كما تقول مثلاً عالمة الأعصاب ماريان وولف: “إن أدمغتنا مهيّأة لاكتساب اللغة لكنها غير مبرمجة فطرياً على القراءة، فهي مهارة مكتسبة. غير أن مرونة الدماغ قد تعمل ضدنا: إما أن نمارس القراءة فنقويها، أو نهملها فنتراجع عنها”، وهو ما يحيلنا إلى كلمة عام 2024 التي اختارتها منشورات جامعة أكسفورد: “تعفّن الدماغ” والتي تشير إلى كلٍّ من رداءة المحتوى الرقمي وتدهور القدرات الذهنية بسبب فرط استهلاكه.

في المقابل، تتواصل أهمية القراءة من خلال إمكاناتها في إزالة التوتر، والابتعاد عن التشتت وتحفيز الخيال، وزيادة القدرات بشكل تراكمي، وأكثر عمقاً على الاندماج في سرديات ثقافية واجتماعية قد تتجاوز حدود المحلية. وهو ما بات يتضاءل مع تحوّل القارئ إلى منتج للمحتوى ومستهلك له في آن، كما تقدّمه ثقافة الفيديو القصير والنص القصير والتوجه المنتشر أو الترند.

اقتباس من رواية وإطلالة على مأساة

تُختزل الكثير من الروايات العربية والعالمية لدوستويفسكي وكونديرا وهان كانغ وموراكامي ومحفوظ  وغيرهم، على هيئة اقتباسات في وسائل التواصل الاجتماعي، لأغراض دعائية أو ثقافية أو غيرها. إذ تُربط الاقتباسات بقضايا إنسانية أو اجتماعية أو وطنية، إذ تحمل سردياتها التي يستحضرها القارئ والمثقف بوصفهما جزءاً من حدث ما أو شريكين في قضية معينة أو متعاطفين معها، وقد يجسد مضمون الاقتباس الحالة التي يمر بها كل منهما، وربما تتكرر هذه الاقتباسات ويعيد آخرون نشرها بوسائل مختلفة. وربما تؤدي بالبعض إلى قراءة الرواية كاملة، أو تسليط الضوء عليها من بعض المؤثرين، لتنتشر ويقرأها كثيرون أو قليلون. 

رداءة المحتوى الرقمي وتدهور القدرات الذهنية بسبب فرط استهلاكه

لكن هذا الفعل لا يعني أن أياً منهما نجا من سرقة الانتباه. ولنأخذ قطاع غزة ومأساته مثالاً، إذ حظي باهتمام عربي واسع على وسائل التواصل إن صح التعبير، يخبو حيناً ويشتد في آخر، ويحظى بتعاطف عالمي ضمن مستويات معينة. إلا أن هذا لا يعني انصراف المهتمين والمتعاطفين إلى بناء ثقافة راسخة ذات قيمة مستمرة ودائمة، ربما تؤدي ذات يوم إلى تغيير ما تجاه قضية عالمية بامتياز، لتتحدى تعطيل مفاهيم حقوق الإنسان بشكل مؤثر مثلاً. في ظل ما تحدده خوارزميات وردات فعل رقمية وتفضيلات متنوعة لا تعدو مأساة غزة كونها جزءاً منها لا أكثر. 
 
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار الفائدة العالمية المشتركة التي تركتها روايات وأعمال مثل “مئة عام من العزلة” لماركيز، أو “1984” لأورويل، أو “الحرب والسلام” لتولستوي، و”الأحمر والأسود” لستندال، و”قصة مدينتين” لديكينز وغيرها، التي شكلت نوعاً من الفهم الصلب لدى الأجيال، الذي يتجسد في رفض تقبل المآسي والحروب كحالة يومية يقوم البشر بإفراغ تعاطفهم، ورفضهم لها في مجموعة من التعليقات وردات الفعل مثلما قد تختزل اليوم، حتى تتحول إلى تاريخ يولد ويموت كل يوم دون معنى، إلى جانب أحداث ومعلومات وصور وفيديوهات ومنشورات كثيرة تتسبب في قتل الانتباه. ولعلّ هذا ما يقود أيضاً إلى موت قدرة المرء، أو تراجعها إلى حدّ كبير، على النقد والتفكير بعمق.