
لماذا تتسارع وتيرة مغادرة العمال الأميركيين للخارج؟
تواجه سوق العمل الأميركية تحولات ملحوظة تعكس عمق الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها المواطن؛ فبين ارتفاع تكاليف المعيشة وتزايد الاستقطاب السياسي، تتبلور ظاهرة جديدة تتمثل في بحث عدد متزايد من العمال عن فرص خارج حدود الولايات المتحدة، في تحول يعيد طرح أسئلة قديمة حول جاذبية “الحلم الأميركي”.
تظهر مؤشرات عدة أن هذا الاتجاه صار يميل إلى اكتساب طابع أوسع قد يحمل تداعيات مباشرة على الاقتصاد الأميركي؛ فالهجرة لم تعد خياراً للفئات المهمشة فقط، وإنما بدأت تشمل شرائح من أصحاب المهارات العالية الذين لطالما شكلوا ركيزة أساسية في الابتكار والنمو.
وبعد مرور ما يقرب من عام على فوز دونالد ترامب بالانتخابات وعودته إلى البيت الأبيض، يفكر المزيد من العمال الأميركيين في العمل خارج وطنهم هرباً مما يراه البعض مشهداً سياسياً يزداد توتراً، بحسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز”.
- أفادت شركات إعادة التوطين ومحامو الهجرة بارتفاع كبير في الاستفسارات، لا سيما في الدول الناطقة باللغة الإنكليزية، مثل المملكة المتحدة وكندا، وفي أوروبا الغربية.
- تؤدي هذه الاستفسارات بشكل متزايد إلى اتخاذ إجراءات (عملية)؛ فقد ارتفع عدد طلبات الجنسية البريطانية من الولايات المتحدة إلى 2194 طلباً في الربع الثاني من عام 2025، بزيادة قدرها 50 بالمئة عن العام السابق، وهو أعلى مستوى منذ بدء التسجيل، وفقاً لبيانات وزارة الداخلية.
- بلغ عدد طلبات جوازات السفر الأيرلندية أعلى مستوى له في عشر سنوات، حيث بلغ 4327 طلباً في فبراير.
وينقل التقرير عن مؤسس شركة الاستشارات “إيتاليان سيتيزنشيب أسيستانس”، ماركو بيرمونيان، قوله: “أعمل في هذا المجال منذ 12عاماً، ولم أرَ قط هذا الاهتمام بالانتقال إلى مكان آخر”.
بينما تمثل أعداد المغادرين نسبة ضئيلة من الأميركيين في سن العمل، وبالنسبة للكثيرين، فإن صعوبات الانتقال وواقع احتمال انخفاض فرص العمل والراتب تفوق الفرص المتاحة، لكن الخبراء يقولون إن هذه الأرقام تعكس على الأرجح خسارة كبيرة في أعداد العمال ذوي المهارات العالية.
تقول المؤسسة المشاركة لشركة إكسباتسي لاستشارات الهجرة الأميركية، جين بارنيت: “ما نراه هو أنه بدلاً من رحيل المهمشين، يغادر الآن أشخاص أكثر نجاحاً”.
سوق العمل تتصدّع… والفيدرالي يتدخل أخيراً
أبرز الأسباب والتداعيات
من جانبه، يقول خبير أسواق المال محمد سعيد،لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هناك تحولاً ملحوظاً في علاقة العامل الأميركي ببلده؛ موضحاً أن:
- الحديث عن هجرة العمالة الأميركية للعمل في الخارج لم يعد مجرد فكرة عابرة، بل ظاهرة لها أسبابها العميقة ودلالاتها الاقتصادية المهمة.
- القضية ليست مجرد هروب جماعي بقدر ما هي تفاعل بين عدة عوامل متزامنة؛ أهمها أن الوظائف نفسها بدأت تهاجر والعمال يتبعونها رقمياً أو جغرافياً.
- السبب الرئيسي لهذا التحول هو الضغط الاقتصادي المتزايد داخل الولايات المتحدة؛ حيث أصبحت تكاليف المعيشة، خصوصاً في المدن الكبرى، مرهقة للغاية، فالإسكان والنفقات اليومية تستنزف جزءاً كبيراً من الدخل.
- نظام الرعاية الصحية باهظ التكلفة يجعل الحياة صعبة مقارنة بدول أوروبية كثيرة تقدم خدمات صحية أفضل بتكلفة أقل.
- كما أن المناخ السياسي والاجتماعي المشحون بالاستقطاب يدفع الكثيرين أيضاً للبحث عن بيئة أكثر استقرارًا وهدوءاً.
ويشير إلى أن ثورة العمل عن بعد جعلت هذا التفكير ممكناً، إذ أصبح بإمكان الموظف الأميركي الاحتفاظ بوظيفته ذات الراتب المرتفع بينما يعيش في دول مثل البرتغال أو إسبانيا، حيث تكاليف المعيشة أقل بكثير وجودة الحياة أفضل، مما يرفع صافي الدخل بشكل كبير ويحقق توازناً أفضل بين العمل والحياة الشخصية.
وفي المقابل، بدأت الشركات الأميركية نفسها تتجه بقوة لتوظيف عمالة من الخارج أو ما يعرف بالـ Offshoring لتقليل التكاليف، وهو ما يقلل من فرص العمل المتاحة داخل السوق الأميركية. ويؤكد سعيد أن لهذا الاتجاه دلالات خطيرة تكشف عن تغيرات هيكلية، حيث إن فكرة “الحلم الأميركي” بدأت تفقد بريقها بالنسبة لشريحة من المواطنين. والأهم من ذلك -كما يوضح- أن الولايات المتحدة تسجل لأول مرة منذ عقود صافي هجرة سلبياً، بمعنى أن عدد المغادرين يفوق عدد القادمين، وهو ما يشير إلى بداية استنزاف للكفاءات والخبرات أو ما يعرف بنزيف الأدمغة.
التأثيرات الاقتصادية
ويضيف أن التأثير على الاقتصاد الأميركي متعدد الأوجه:
- على المدى القصير قد يؤدي نقص العمالة في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والاستشارات إلى تباطؤ النمو الاقتصادي والابتكار.
- كما أن خروج الكفاءات يقلل من الإنفاق المحلي ويضعف القاعده الضريبيه التي تعتمد عليها برامج مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
- بعض الشركات قد تستفيد من خفض تكاليفها عبر التوظيف الخارجي لكن هذا يخلق ضغطا على الأجور في الداخل ويؤثر سلباً على الطبقة الوسطى.
- على المدى الطويل، استمرار هذا الاتجاه، قد يدخل الاقتصاد الأميركي مرحلة صعبة، ذلك أن انكماش القوى العاملة يحد من القدرة الإنتاجية للاقتصاد ويخفض معدل النمو المحتمل في حين يؤدي نقص العمالة في بعض القطاعات الخدمية إلى ضغوط تضخمية في الأجور والأسعار.
هذا المزيج من النمو البطيء والتضخم المرتفع قد يدفع الاقتصاد نحو حالة من الركود التضخمي الخفيف، وهو تحدٍ كبير يتطلب إعادة نظر شاملة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لجعل أميركا مكاناً جاذباً للعيش والعمل من جديد.
التمسك بالوظائف.. توجه جديد في أماكن العمل
تحديات سوق العمل
ويُبرز تحليل لصحيفة “وول ستريت جورنال” جانباً من تحديات سوق العمل في الولايات المتحدة، بالإشارة إلى أن “المزيد من الأميركيين عالقون في الوظائف التي يمكنهم الحصول عليها، وليس الوظائف التي يريدونها”.
- تدفع سوق العمل المتعثرة في الولايات المتحدة المزيد من الأميركيين إلى العمل بدوام جزئي وغيره من الأدوار التي لا يريدونها.
- لا يزال معدل البطالة الرسمي في الولايات المتحدة منخفضاً عند 4.3 بالمئة. لكن في الخفاء، ثمة مؤشرات متزايدة على معاناة الباحثين عن عمل مستقر بدوام كامل في وقت تباطأ فيه التوظيف بشكل ملحوظ.
- هناك مقياس منفصل للبطالة، يشمل العاملين بدوام جزئي الذين يفضلون العمل بدوام كامل، والأشخاص الذين توقفوا عن البحث عن عمل بسبب الإحباط الشديد. بلغ هذا المعدل 8.1 بالمئة في أغسطس، وهو أعلى مستوى له منذ ما يقرب من أربع سنوات.
- ارتفع هذا المعدل تدريجياً على مدار العامين الماضيين.
وقال كبير الاقتصاديين في شركة EY-Parthenon جريجوري داكو: هناك عدد متزايد من الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في وضع حساس عندما يتعلق الأمر بفرصهم في العثور على عمل والعودة إلى المسار الصحيح” بعد ترك الوظيفة.
وأشار إلى أن واحدًا من كل أربعة باحثين عن عمل ظل عاطلًا عن العمل لمدة ستة أشهر على الأقل. وقبل عام، كانت النسبة أقرب إلى واحد من كل خمسة. ويتجه العديد من هؤلاء الأشخاص إلى العمل بدوام جزئي خارج مجالاتهم.
تكاليف المعيشة
وإلى ذلك، يوضح رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة ، Cedra Markets، جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوزر عربية” أن هناك عدة أسباب تدفع بعض العمال الأميركيين إلى مغادرة الولايات المتحدة، ما يترك انعكاسات مباشرة على الاقتصاد.
- جائحة كورونا أسهمت في ترسيخ ثقافة العمل عن بُعد، وهو ما أتاح للعديد من الموظفين العمل من خارج أميركا في دول توفر بيئة معيشية أفضل من حيث التكاليف والمناخ وسهولة الحياة، مع استمرار حصولهم على رواتبهم من داخل الولايات المتحدة.
- تكاليف المعيشة المرتفعة والنظام الضريبي والتضخم المستمر يضغطون على القدرة الشرائية للمواطنين، ويؤثرون سلبًا على مستويات الدخل.
- حالة عدم الاستقرار السياسي والتحولات نحو تيارات متشددة تدفع البعض إلى البحث عن بيئات أكثر أماناً واستقراراً خارج البلاد.
ويتابع أن هذه العوامل مجتمعة سيكون لها أثر طويل الأمد على الاقتصاد الأميركي، سواء من ناحية تراجع الكفاءات أو من ناحية الإيرادات الضريبية، لافتاً إلى أن الاقتصاد الأميركي لن يشهد انهياراً أو ضعفاً جوهرياً، لكنه قد يتأثر سلباً بما يزيد من الضغوط التضخمية.
ويختتم حديثه بالتأكيد على أن المخاوف الحقيقية تكمن في تحوّل هذا الاتجاه إلى ظاهرة دائمة، وهو ما قد يُفقد الولايات المتحدة جاذبية “الحلم الأميركي”، الذي شكّل عبر التاريخ مصدرًا لقوتها ونموها ومكانتها كأكبر اقتصاد عالمي.”
بيانات التضخم والوظائف تضع الفيدرالي أمام اختبار مزدوج